نزيف بصمت.. 190 ألف نازح وهدنة مكسورة ومساعدات مسروقة في السويداء
نزيف بصمت.. 190 ألف نازح وهدنة مكسورة ومساعدات مسروقة في السويداء

في جنوب سوريا، تتأرجح محافظة السويداء على حافة الهاوية بين هدنة مهددة وانفجار وشيك، فبعد أسابيع من القتال الدامي بين الفصائل المسلحة، وما خلّفه من مئات القتلى وآلاف النازحين، تبرز المؤشرات على أن وقف إطلاق النار الهش بات مجرد حبر على ورق.
الحكومة السورية سارعت إلى اتهام "عصابات متمردة" بخرق التهدئة والسطو على المساعدات، بينما تتجدد الاشتباكات غرب المحافظة، وسط عجز واضح عن تثبيت الاستقرار أو حماية المدنيين، وبينما تتكدس المساعدات في قوافل تمر بشق الأنفس عبر ممر بصرى الشام، ما تزال مئات العائلات تبحث عن مأوى آمن في وجه التصعيد، مشهد دراماتيكي يعيد إلى الواجهة أزمات ما بعد الحرب السورية، حيث الدولة تواجه تحدي بسط سيادتها في مناطق تحكمها الحسابات العشائرية والانقسامات الداخلية، فهل تكون السويداء اختبارًا جديدًا لمعادلة الأمن والمصالحة، أم أنها مقدمة لفصل دموي جديد في الجنوب السوري؟
*سرقة المساعدات*
في بيان شديد اللهجة صدر الأحد، حمّلت وزارة الداخلية السورية من وصفتهم بـ"العصابات المتمردة" مسؤولية انهيار اتفاق وقف إطلاق النار في محافظة السويداء، مشيرة أن هذه الجماعات شنّت هجمات متفرقة ضد قوات الأمن في الريف الغربي للمحافظة، مؤكدين أن العصابات تسرق المساعدات وتجر المحافظة للاقتتال الداخلي.
وتزامن ذلك مع إعلان قوات الأمن الداخلي استعادة السيطرة على نقطة تل حديد الاستراتيجية، ما يعكس تصعيدًا واضحًا في الاشتباكات رغم مرور أيام فقط على التوصل إلى تهدئة.
وفيما تتهم السلطات السورية هذه المجموعات بالعمل وفق "دوافع شخصية لقادتها" وبتعمد "تغطية ممارساتها التعسفية" عبر خرق التهدئة، يرى مراقبون أن الصراع في السويداء أعمق من مجرد فوضى أمنية.
فالفصائل المسلحة التي تشكلت محليًا في السنوات الأخيرة، خاصة بين أبناء الطائفة الدرزية، أصبحت جهة فعل سياسي وأمني موازية للدولة، مدفوعة بشعور متزايد بالتهميش، وسخط من السياسات المركزية التي فشلت في تأمين الحد الأدنى من الخدمات أو الأمان.
*تدهور الأوضاع*
وعلى الأرض، دخلت 10 حافلات برفقة الهلال الأحمر العربي السوري، عبر ممر بصرى الشام، لإجلاء عدد من المدنيين، وأُعلن أيضًا عن وصول قافلتي مساعدات إنسانية إلى ذات الممر، محملتين بأكثر من 200 طن من الطحين، ومواد غذائية وصحية تغطي احتياجات نحو 8700 عائلة، فضلًا عن معدات طبية وأدوية ضرورية، في مشهد يؤكد على تدهور الأوضاع المعيشية والإنسانية داخل المحافظة.
ورغم الجهود الإنسانية، أفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أن أكثر من 190 ألف شخص نزحوا منذ اندلاع المواجهات في 13 يوليو بين فصائل درزية ومسلحين من البدو، امتدت إلى درعا ودمشق، ولم يعد منهم سوى 120 شخصًا فقط.
كما تسببت الاشتباكات في إغلاق الطريق الإنساني الرئيسي "بصرى الشام" مؤقتًا، إضافة إلى استمرار إغلاق الطريق السريع بين دمشق والسويداء منذ 12 يوليو، ما فاقم من صعوبات الإمداد والخدمات.
*لا حصار*
وأشار التقرير الأممي، أن هذه التطورات ألقت بعبء هائل على النظام الصحي المتدهور أصلًا في السويداء، وكذلك في محافظة درعا المجاورة، ما دفع منظمات الإغاثة إلى التحذير من كارثة إنسانية وشيكة إذا استمر التصعيد.
على الصعيد الأمني، أعلن قائد الأمن الداخلي في السويداء أحمد الدالاتي أن دخول القوات الأمنية إلى المحافظة هدفه تأمين الطرق وتسهيل إدخال المساعدات، نافيًا وجود أي حصار مفروض على المنطقة، ومؤكدًا أن العمليات الجارية تندرج ضمن "ضبط أمني وليس قمعًا".
لكن على الأرض، ما يزال التوتر سيد الموقف، خاصة بعد تجدّد الاشتباكات العنيفة في 3 أغسطس غرب مدينة السويداء، حيث استخدمت راجمات الصواريخ خلال مواجهات عنيفة بين وحدات "الدفاع الذاتي" وفصائل من العشائر، ما يشير إلى تعقيد المشهد الميداني، وتحول النزاع من مجرد خلافات محلية إلى صراع مركب ذي أبعاد طائفية وعشائرية وسياسية.
*اشتباكات لا تتوقف*
ووفق المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن هذه الجولة من الاشتباكات أسفرت عن مقتل شخصين على الأقل، أحدهما من أبناء السويداء والآخر من عناصر الأمن، في أول حادث دموي منذ إعلان التهدئة التي كانت قد أنهت مواجهات خلّفت أكثر من 1400 قتيل.
ويبدو أن السويداء أصبحت مرآة دقيقة لصراعات ما بعد الحرب في سوريا؛ صراعات تتداخل فيها العوامل الطائفية والعشائرية مع الانهيار الاقتصادي وغياب مؤسسات الدولة الفاعلة.
فبينما تحاول دمشق فرض سلطتها وإظهار قدرتها على ضبط الجنوب، تبقى قدرة الفصائل المحلية على التأثير قائمة، مدفوعة بسخط شعبي، وتحولات عميقة في المزاج العام، وغياب أي تسوية سياسية شاملة حتى اللحظة.