تحقيق دولي يكشف: جرائم تطهير عرقي تلاحق الجيش السوداني

تحقيق دولي يكشف: جرائم تطهير عرقي تلاحق الجيش السوداني

تحقيق دولي يكشف: جرائم تطهير عرقي تلاحق الجيش السوداني
الجيش السوداني

منذ اندلاع الحرب في السودان، لم يعد العنف مجرد نتيجة جانبية لصراع مسلح، بل تحوّل في مناطق بعينها إلى ممارسة منظمة تحمل بصمات تطهير ممنهج، ففي ولاية الجزيرة، التي كانت تُعدّ لعقود سلة غذاء البلاد وواحة استقرار نسبي، تتكشف اليوم روايات مرعبة عن قتل جماعي، وإعدامات ميدانية، وجثث تُلقى في قنوات الري كما لو أنها فائض حرب لا أسماء لهم، تحقيق استقصائي دولي، استند إلى شهور من التتبع الميداني والتحليل الرقمي، يضع الجيش السوداني وحلفاءه في دائرة الاتهام، متحدثًا عن عنف تحرّكه اعتبارات عرقية، استهدف مدنيين لا علاقة مباشرة لهم بالقتال، وبينما لا ينفي التحقيق فظائع موازية ارتكبتها قوات الدعم السريع، فإنه يسلط الضوء على مرحلة حساسة أعقبت استعادة ود مدني، حيث اختلط خطاب النصر بمشاهد موت صامت، ما يطرح أسئلة ثقيلة حول طبيعة العمليات العسكرية وحدود المسؤولية السياسية والأخلاقية في حرب بات المدنيون وقودها الأبرز.

ذريعة لتبرير استهداف المدنيين

كشف تحقيق مشترك أجرته شبكة CNN الأميركية بالتعاون مع مؤسسة Lighthouse Reports الاستقصائية، عن نمط صادم من الانتهاكات التي رافقت عمليات الجيش السوداني في ولاية الجزيرة مطلع العام الجاري، خصوصًا خلال وبعد استعادة مدينة ود مدني، عاصمة الولاية، التحقيق، الذي استند إلى مراجعة مئات مقاطع الفيديو، وتحليل صور أقمار اصطناعية، ومقابلات مع ناجين وشهود وضباط سابقين، خلص إلى وجود أدلة قوية على عمليات قتل جماعي للمدنيين بدوافع عرقية، وعمليات إعدام خارج نطاق القانون.

تأتي هذه النتائج في سياق حرب خلّفت، وفق تقديرات دولية، أكثر من 150 ألف قتيل، ونحو 12 مليون نازح، إلى جانب تفشي المجاعة في مناطق واسعة من البلاد، ويشير التحقيق إلى أن ما جرى في الجزيرة يمثل وجهًا آخر للحرب، حيث تحوّلت عمليات التحرير إلى حملات انتقامية استهدفت فئات بعينها من السكان.

وفق التحقيق، رافق تقدّم القوات المسلحة السودانية ومجموعات شبه عسكرية موالية لها استخدام مكثف لخطاب يتهم المدنيين بـ التعاون مع قوات الدعم السريع، هذا الوصف، الذي تكرر في مقاطع مصوّرة لجنود على الأرض، اعتبرته جوي نغوزي إيزيلو، عضوة بعثة الأمم المتحدة المستقلة لتقصي الحقائق في السودان، ذريعة فضفاضة تُستخدم لتبرير استهداف المدنيين على أسس عرقية، دون وجود أدلة فردية.

شهادات صادمة


في منطقة بيكة، شمالي ود مدني، تتجلّى إحدى أكثر الصور قسوة، شهادات ضباط من جهاز المخابرات العامة السوداني، كانوا متواجدين في المنطقة، تحدثت عن قتل أشخاص بعد اتهامهم بالتعاون مع الدعم السريع، ثم إلقاء جثثهم – وأحيانًا وهم أحياء – في قنوات المياه، هذه الروايات تعززها مقاطع فيديو وصور أقمار اصطناعية أظهرت عشرات الجثث في مجاري المياه، بعضها مقيّد اليدين، وبعضها الآخر عارٍ أو بملابس مدنية.

اللافت، أن هذه المواقع نفسها شهدت، بعد أيام قليلة، ظهور قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وهو يلقي خطاب النصر أمام جنود يحتفلون بالتقدم العسكري، وبحسب التحقيق، فإن المكان الذي أُلقي فيه الخطاب لا يبعد سوى أمتار عن قنوات عُثر فيها لاحقًا على جثث متعددة، ما يضفي بعدًا رمزيًا قاتمًا على مشهد الانتصار العسكري.

تحليل لقطات الفيديو من قبل خبراء في الأنثروبولوجيا الشرعية أشار إلى أن توقيت الوفاة يتوافق مع فترة سيطرة الجيش على المنطقة، كما كشفت صور أقمار اصطناعية التُقطت في مايو عن أجسام بيضاء في قاع القنوات، تتطابق في شكلها وأبعادها مع جثث ملفوفة، وفق تحليل مختبر الأبحاث الإنسانية بجامعة ييل.

ويؤكد التحقيق، أن العنف لم يكن عشوائيًا، بل اتخذ طابعًا انتقائيًا. خبراء وشهود أفادوا بأن الاستهداف طال في الغالب أشخاصًا من أصول غير عربية، لا سيما القادمين من دارفور الغربية وجنوب السودان. 

ضابط في الجيش، طلب عدم الكشف عن هويته، قال: إن من بدا أنه من النوبة أو من غرب أو جنوب السودان كان يُطلق عليه النار فورًا، شهادة أخرى لقائد استخباراتي رفيع المستوى تحدثت عن إطلاق النار على مئات الأشخاص الذين خرجوا لاستقبال القوات، لمجرد الاشتباه في انتمائهم العرقي.

إعدامات ميدانية


عند جسر الشرطة، وقعت واحدة من أبشع الوقائع، مقاطع مصوّرة أظهرت إعدامات ميدانية لرجال عُزّل بملابس مدنية، ثم مشاهد لاحقة لجثث لا تقل عن خمسين شابًا، كثير منهم حفاة، مصابين بطلقات في الرأس، دون أي مؤشرات على حملهم للسلاح، شهادات ميدانية أكدت أن بعض الضحايا دُفنوا في مقابر جماعية إلى جانب مقاتلين من قوات الدعم السريع، في محاولة لطمس معالم الجريمة.

ولم تقتصر الانتهاكات على محاور القتال، بل امتدت إلى استهداف الكنابي، وهم مجتمع غير عربي مهمّش يشكّل نسبة كبيرة من سكان ولاية الجزيرة، في قرية طيبة، تحدث شهود وضباط عن هجوم شنته قوات درع السودان، الموالية للجيش، أسفر عن إطلاق نار على مدنيين وحرق منازل.

 تقارير حقوقية، بينها تقرير لـ"هيومن رايتس ووتش"، وثّقت مقتل ما لا يقل عن 26 شخصًا، بينهم نساء وأطفال.

ورغم إعلان الجيش السوداني، في يناير الماضي، إدانته لما وصفه بـ”الانتهاكات الفردية” وفتحه تحقيقًا داخليًا، يؤكد معدّو التحقيق: أن حجم وتكرار الوقائع، وتطابق الشهادات، يشير إلى نمط أوسع قد يصل إلى مستوى جرائم حرب، وربما تطهير عرقي. 

بعثة الأمم المتحدة المستقلة ذهبت أبعد من ذلك، معتبرة أن ما جرى في بعض مناطق الجزيرة قد يرقى إلى إبادة جماعية ممنهجة.

في ظل غياب رد رسمي مفصل من قيادة الجيش على هذه الاتهامات، تبقى الأسئلة مفتوحة: هل كانت هذه الانتهاكات نتيجة فوضى حرب، أم جزءًا من استراتيجية غير معلنة، وأين تقف حدود المساءلة في بلد تتنازعه البنادق وتغيب فيه العدالة؟