شنغهاي 2025.. قمة تعيد رسم خرائط الشرق وصورته في مواجهة الغرب
شنغهاي 2025.. قمة تعيد رسم خرائط الشرق وصورته في مواجهة الغرب

تبدو قمة منظمة شنغهاي للتعاون في بكين كأنها لحظة ثانية لتأسيس المنظمة بعد ربع قرن على انطلاقتها، ليس لأن البيان الختامي صيغ بلهجة أعلى ضد التدابير الأحادية فحسب، بل لأن الرؤية الجماعية بدت أكثر تماسكًا، نظام دولي أكثر عدلًا، ذاكرة تاريخية تُحمى من إعادة التأويل، ومبدأ عدم التدخل بوصفه حجر زاوية لاستقرارٍ طويل الأمد.
على الهامش، تحرّكت ترسيمات القوة: لقاء بوتين ـ شي وضع أساسًا لشراكة لا سابقة لها ومشروعات طاقة ونقل تكنولوجيا وطيران وذكاء اصطناعي، فيما أرسلت نيودلهي إشاراتٍ لافتة إلى رغبتها في طي صفحة التوتر مع بكين من دون قطع جسورها مع موسكو، وبينما تبنّت القمة استراتيجية التنمية حتى 2035، خطت المنظمة إصلاحًا مؤسسيًا بتوحيد صفتي المراقب وشريك الحوار في إطار شريك المنظمة، فاتحةً الباب أمام توسيعٍ مدروس للنفوذ.
موسكو وبكين
بعيون روسية بالدرجة الأولى، عكس البيان الختامي للقمة تحولًا في المعجم السياسي للمنظمة، إدانة صريحة للإرهاب بكل أشكاله مع رفض المعايير المزدوجة، تأكيد التزام عدم استخدام القوة وعدم التدخل، وتبنّي سردية العدالة الدولية بوصفها إطارًا أعلى لإدارة الخلافات، المثير هنا ليس البنية الإنشائية، بل إحالة النص إلى حماية الذاكرة التاريخية ودروس الحرب العالمية الثانية، بما يجعل التاريخ نفسه جزءًا من معادلة القوة الناعمة في مواجهة خطاب غربي يتهم خصومه بتسييس الماضي.
على هامش الجلسات العامة، حمل لقاء الرئيسين فلاديمير بوتين وشي جينبينغ رسائل مزدوجة، رمزية عالية، ومحتوى عملي، الإشادة بـمستوى غير مسبوق من التنسيق تُرجمت إلى حزمة تقارب عشرين وثيقة أساسية تشمل الطاقة، والفضاء، والطيران، والذكاء الاصطناعي، والزراعة، والتعليم والإعلام.
في الطاقة تحديدًا، جرى تثبيت مسار زيادة إمدادات الغاز عبر سيبيريا من 38 إلى 44 مليار متر مكعب سنويًا، مع العمل على خط إضافي يعمّق الترابط البنيوي بين الاقتصادين.
وفي صناعة الطيران، طُرحت احتمالات نقل تقنيات محركات الطائرات إلى الصين، بما يفتح نافذة نادرة في مجالٍ طالما ظلّ حساسًا، وإلى ذلك، أعلن الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة منصة ثنائية لدعم دخول الشركات الصينية إلى روسيا والعكس، ما يحوّل الشراكة من عنوان سياسي إلى بنية أعمال قابلة للقياس.
نيودلهي بين الحسابات الصلبة وإغراءات الشرق
التحوّل الأكثر إثارة للنقاش تمثل في لغة الهند، فبعد سنوات من التوازن بين واشنطن وبكين، بدت إشارات نيودلهي أوضح نحو ترميم العلاقة مع الصين من دون التفريط بعلاقتها التاريخية مع موسكو.
ذكّر رئيس الوزراء ناريندرا مودي بأن الهند وروسيا تقفان جنبًا إلى جنب حتى في الأوقات الصعبة، مشيدًا بكل جهد يسرع إنهاء الحرب في أوكرانيا.
هذا التموضع يقرأ على أنه دفاع عن المصالح الذاتية، اقتصاد ينمو بوتيرة سريعة، وحاجة إلى أسواقٍ واستثمارات وبنى تحتية عابرة للحدود، وحسابات حماية استراتيجية تتطلب هوامش مناورة أوسع من اصطفافٍ حاد.
وفي الخلفية، لا يمكن تجاهل توتّرات التجارة والرسوم مع الولايات المتحدة خلال الأعوام الأخيرة، والتي منحت السردية الهندية مزيدًا من المبررات لتجريب مقاربة آسيوية أكثر تحرّرًا من ضغوط الاستقطاب.
رسالة سياسية
لم تكن عدسات الكاميرات تفوّت الرمزية، طاولة على شكل حدوة حصان يتوسطها شي جينبينغ، وبجوارها بوتين ضيف الشرف، وإلى جانبهم قادة دولٍ تُعدّ بين الأكثر سكانًا وقوة وتأثيرًا.
يقول د. طارق فهمي أستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية: إن بالنسبة لوسائل إعلام غربية، المهم ليس تفاصيل الاتفاقيات بقدر صورة الترتيب نفسها، خصوم معلنون أو محتملون للغرب يضحكون ويتناولون الطعام ويتحدّثون عن تعاون أوثق.
وأضاف في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن هذه الصورة ـ كما أرادتها بكين ـ تقول إن زمن التدريب على التعددية انتهى، وحان وقت تجسيدها في مؤسساتٍ وشبكات مصالح.
محطة فارقة
يذهب الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، إلى أن قمة شنغهاي 2025 تمثل محطة فارقة في إعادة هيكلة النظام الدولي، ليس فقط من زاوية الخطاب السياسي ولكن من خلال التحولات العملية التي بدأت تتبلور بين القوى الكبرى.
ويرى فهمي في تصريحات لـ"العرب مباشر"، أن القمة كشفت عن ثلاث رسائل رئيسية: الأولى، أن موسكو وبكين صاغتا شراكة استراتيجية غير قابلة للاهتزاز في المدى القريب، وهو ما يعيد تشكيل موازين القوى في مواجهة الغرب.
الثانية، أن الهند لم تعد تكتفي بسياسة التوازن التقليدي، بل تسعى إلى موقع أكثر استقلالًا يتيح لها التحرك بحرية أكبر بين واشنطن وبكين، ما يمنحها أوراق ضغط إضافية في ملفات التجارة والطاقة والأمن.
أما الرسالة الثالثة، فهي أن منظمة شنغهاي للتعاون تتحول تدريجيًا من إطار إقليمي إلى منصة متعددة الأبعاد قادرة على استقطاب شركاء جدد وتقديم بديل ملموس للنماذج الغربية.
ويخلص فهمي إلى أن السنوات المقبلة ستختبر قدرة المنظمة على الانتقال من قوة رمزية إلى قوة مؤسسية، معتبرًا أن نجاحها سيعتمد على مدى قدرتها على تجاوز الخلافات البينية وتطوير أدوات اقتصادية وأمنية مشتركة، وإلا ستظل رهينة الصور الاحتفالية والبيانات المشتركة.