العراق بين صناديق خاوية وشرعية معلّقة.. انتخابات تكشف عمق الهوة بين الشعب والدولة

العراق بين صناديق خاوية وشرعية معلّقة.. انتخابات تكشف عمق الهوة بين الشعب والدولة

العراق بين صناديق خاوية وشرعية معلّقة.. انتخابات تكشف عمق الهوة بين الشعب والدولة
انتخابات العراق

كشفت الانتخابات العراقية الأخيرة عن أزمة ثقة تتجاوز صناديق الاقتراع إلى عمق العلاقة المهتزة بين المواطن والدولة. فبينما كانت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات تتحدث عن "يوم سلس ومنظم"، كانت مراكز التصويت تعاني فراغًا فاضحًا لا يملؤه سوى صدى الخطابات الحزبية المكررة.

 نسبة مشاركة لم تتجاوز 23%، في بلد اعتاد أن تكون الانتخابات فيه معيارًا لقياس نبض الشارع، تحولت اليوم إلى مقياس على انطفاء الأمل في التغيير، لقد قال العراقيون كلمتهم هذه المرة بالصمت، وهو صمت احتجاجي ضد طبقة سياسية لم تفِ بوعودها، وضد منظومة انتخابية فقدت بريقها كأداة ديمقراطية، هكذا، جاءت نتائج الاقتراع أقرب إلى استفتاء على الثقة بالعملية السياسية نفسها، لا على المرشحين، لتضع العراق أمام سؤال صعب، ماذا تعني الديمقراطية حين يعزف عنها الناس؟

المشاركة 23% فقط


لم تكن نسب المشاركة المتدنية في الانتخابات العراقية الأخيرة مجرّد أرقام جافة تعلنها المفوضية، بل كانت مرآة صادقة لحالة الإحباط العام التي تعصف بالبلاد منذ سنوات.

 فبحسب الإحصاءات الرسمية، لم تتجاوز المشاركة العامة 23% من إجمالي من يحق لهم التصويت، وهو رقم يعكس انهيار الحماس الانتخابي في بلد يرزح تحت وطأة الفساد والبطالة وانعدام الخدمات الأساسية.

تصدّرت محافظة صلاح الدين قائمة المشاركة بنسبة 31.57%، تلتها نينوى والأنبار بنسب تقارب 30%، فيما سجّلت محافظات الجنوب والوسط أرقامًا متدنية على نحو لافت؛ ميسان 16.6%، النجف 18%، وكربلاء 19%.

حتى العاصمة بغداد، التي كانت يومًا مسرحًا للتنافس السياسي المحموم، انقسمت على نفسها بين كرخٍ شارك فيه 23% فقط ورصافة بالكاد تجاوزت 18%. أما إقليم كردستان، الذي لطالما احتفظ بكتلة تصويتية نشطة، فقد شهد بدوره تراجعًا ملموسًا، إذ لم تتجاوز أربيل 29% ودهوك 27%.

هذه الأرقام، وإن بدت في ظاهرها إحصاءات انتخابية، إلا أنها في حقيقتها مؤشرات سياسية عميقة على أزمة الثقة بين العراقيين ونظامهم السياسي، فالمواطن، كما يقول المحلل السياسي العراقي علي الصاحب، لم يعد يرى في الانتخابات وسيلة للتغيير، بل طقسًا متكرّرًا لإعادة إنتاج النخب ذاتها".

ويرى الصاحب في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن المشاركة المحدودة اقتصرت على القواعد الحزبية التقليدية، بينما غابت شرائح الشباب والمستقلين وثوار تشرين الذين آثروا المقاطعة على المشاركة في ما يعتبرونه "مسرحية سياسية مكرّرة".

انتخابات باردة


الشعور بالعزلة عن القرار السياسي لم يأت من فراغ، فسنوات ما بعد 2003 حملت وعودًا كثيرة بالتنمية والإصلاح، لكنها انتهت بخيبات متتالية، الحكومات المتعاقبة، على اختلاف توجهاتها، لم تنجح في معالجة جذور الفساد ولا في خلق فرص عمل حقيقية، ما جعل فكرة التغيير عبر صناديق الاقتراع تبدو عبثية في نظر كثيرين.

حتى المرجعية الدينية في النجف، التي كان صوتها حاسمًا في دورات سابقة، التزمت الصمت هذه المرة، ما فسّره البعض بأنه رسالة ضمنية بعدم الرهان على العملية الانتخابية الحالية.

من جانبه، يصف الصاحب، أن ما جرى بأنه "انتخابات باردة في بلد يغلي"، ويضيف أن "نسبة المشاركة البالغة 23% لا تعبّر فقط عن فتور، بل عن أزمة تمثيل حقيقية تهدد شرعية النظام الديمقراطي برمّته".

ويؤكد الصاحب في تصريحات لـ"العرب مباشر"، أن غياب القوى الاحتجاجية والمدنية عن المشهد الانتخابي سيمنح الأحزاب التقليدية مساحة أكبر للهيمنة على البرلمان المقبل، ما يعني استمرار الحلقة المفرغة ذاتها التي تحكم السياسة العراقية منذ عقدين.

النسب الحقيقة صادمة

وتشير تقديرات باحثين إلى أن النسبة الحقيقية للمشاركة – إذا ما احتُسبت بناءً على إجمالي من يحق لهم التصويت والبالغ عددهم نحو 29 مليون عراقي – لا تتجاوز فعليًا 17% وبُنيت هذه النسب، بحسب المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، على أساس عدد من يمتلكون البطاقة البايومترية فقط، والبالغ عددهم أكثر من 21 مليون ناخب، وليس على إجمالي من يحق لهم الاقتراع، والذين يقدَّر عددهم بنحو 29 مليون شخص في عموم العراق.

أي أن أكثر من 80% من العراقيين اختاروا المقاطعة أو لم يتمكنوا من الإدلاء بأصواتهم بسبب عدم تحديث بياناتهم، ما يجعل الانتخابات أقرب إلى "تمرين إداري" منها إلى استحقاق ديمقراطي فعلي.

ويخشى مراقبون، أن يؤدي هذا العزوف إلى ترسيخ ظاهرة "الانتخابات الشكلية" التي تفتقر إلى الشرعية الشعبية، الأمر الذي يضع الحكومات المقبلة في موقع هشّ أمام التحديات الداخلية والخارجية، متسائلين، كيف يمكن لحكومة تستند إلى أقل من ربع الناخبين أن تواجه أزمات الاقتصاد والأمن والطاقة والفساد المتجذر.