باريس تضرب قلب الجماعة.. سيناريوهات مستقبل النفوذ الإخواني بعد سقوط المعهد الأوروبي

باريس تضرب قلب الجماعة.. سيناريوهات مستقبل النفوذ الإخواني بعد سقوط المعهد الأوروبي

باريس تضرب قلب الجماعة.. سيناريوهات مستقبل النفوذ الإخواني بعد سقوط المعهد الأوروبي
جماعة الإخوان

في خطوة وصفت بأنها "ضربة قاصمة" لتنظيم الإخوان حول العالم، أسدلت السلطات الفرنسية الستار على واحد من أبرز معاقل جماعة الإخوان المسلمين في القارة الأوروبية، وهو "المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية" (IESH).

لم يكن القرار الذي صدر في سبتمبر 2025 مجرد إجراء إداري بإغلاق مؤسسة تعليمية، بل كان إعلانًا صريحًا عن تحول استراتيجي في سياسة باريس، ومن ورائها عواصم أوروبية أخرى، تجاه ما تعتبره "تغلغلًا أيديولوجيًا" منظمًا عمل لعقود تحت غطاء أكاديمي بريء، منذ تأسيسه في تسعينيات القرن الماضي، قدم المعهد نفسه كمنارة لتعليم اللغة العربية والعلوم الإسلامية، جاذبًا آلاف الطلاب من مختلف أنحاء القارة، لكن خلف هذه الواجهة، كانت تقارير استخباراتية فرنسية ترسم صورة مختلفة تمامًا، صورة لمؤسسة تعمل كحاضنة لتأطير الأئمة والكوادر وفقًا لأجندة "الإسلام السياسي"، وتشرعن مفاهيم متطرفة مثل "الجهاد المسلح"، وتهدف إلى خلق مجتمعات موازية تتعارض مع القيم العلمانية للجمهورية، هذا الإغلاق لا يمثل نهاية القصة، بل يفتح الباب على مصراعيه أمام أسئلة مصيرية حول مستقبل نفوذ التنظيم الذي يواجه تراجعًا في معاقله التقليدية بالشرق الأوسط، ويرى في أوروبا ساحة استراتيجية لبقائه.

ماذا بعد إغلاق المعهد الأوروبي؟


قرار حل المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية لم يكن وليد اللحظة، بل جاء تتويجًا لتحقيقات طويلة ومداهمات أمنية بدأت في أواخر عام 2024، استهدفت شبهات تتعلق بـ"غسيل الأموال" و"تلقي تمويل أجنبي غير معلن"، وتحديدًا من قطر.

وبحسب مرسوم الحل الذي وقعه الرئيس الفرنسي، فإن المعهد كان يروج لأيديولوجية متطرفة "تبرر العنف والكراهية ضد غير المسلمين والنساء"، ويقدم تفسيرات حرفية للنصوص الدينية تدعو لتطبيق عقوبات جسدية، حتى على المتدربين القصّر.

يترتب على هذا القرار نتائج فورية تتجاوز مجرد إغلاق أبواب المعهد، فهو يشمل تجميدًا كاملًا لأصوله المالية وأموال القائمين عليه، ووقفًا لجميع أنشطته التعليمية، سواء كانت حضورية أو عن بعد.

هذه الخطوة تشل فعليًا واحدة من أهم أدوات "القوة الناعمة" التي اعتمد عليها الإخوان لعقود في فرنسا وأوروبا، حيث كان المعهد بمثابة المصنع الرئيسي لإنتاج الأئمة والدعاة الذين ينشرون فكر الجماعة في مئات المساجد والجمعيات المنتشرة في القارة.

وزير الداخلية الفرنسى برونو ريتيلو، رحّب بالقرار عبر منشور فى منصة "إكس"، متهمًا المعهد بـ"إضفاء الشرعية على الجهاد المسلح"، وبحسب ما كشفته وزارة الداخلية لصحيفة لوموند، فإن حل المعهد استند إلى ثلاثة أسباب رئيسية:

التحريض على أعمال عنف ضد الأفراد، التحريض على التمييز أو الكراهية أو العنف ضد الجماعات بسبب الدين أو الأصل القومى أو العرقى أو التوجه الجنسي، القيام بأعمال تهدف إلى إثارة الإرهاب فى فرنسا أو خارجها.

ووفق موقع Place Beauvau، استندت هذه الاتهامات إلى نتائج عمليتى تفتيش نفذتهما السلطات فى مقر المعهد خلال ديسمبر ٢٠٢٤ ومطلع ٢٠٢٥، صودرت خلالهما كتب ومواد تعليمية وُصفت بأنها "تشجع على قراءة حرفية متشددة للشريعة".

تقرير الداخلية أشار إلى أن مناهج موجهة لطلاب السنة الثانية تضمنت تبريرًا للعقوبات البدنية، وتشجيعًا على التمسك الصارم بالشريعة، كما ضُبطت منشورات تصف اليهود بـ"القردة والخنازير" وتتهمهم بممارسة السحر والخداع، فضلًا عن مواد تهاجم العلمانيين وتنتقد بشدة مكانة المرأة فى الغرب.

وفى السياق ذاته، استشهد التقرير بنصوص تدعو إلى "الجهاد"، وتُستخدم – بحسب الداخلية – من قبل جماعات متطرفة، كما وُجهت اتهامات لبعض مسئولى المعهد بنقل خطابات تشجع على العنف، أو تولى مسئوليات فى منظمات مرتبطة بحركة "حماس"، وأكدت أجهزة الاستخبارات أن تسعة من خريجى المعهد التحقوا لاحقًا بجماعات جهادية أو نفذوا هجمات، من بينهم محمد مراح منفذ هجومى تولوز ومونتوبان عام ٢٠١٢.

لكن الإغلاق يكشف عن تحدٍ أكبر للدولة الفرنسية: الفراغ، فمع تفكيك أبرز مؤسسة لتكوين الأئمة المرتبطة بالإخوان، تبرز الحاجة المُلحة لإنشاء بدائل وطنية رسمية تضمن تخريج قادة دينيين يروجون لخطاب معتدل ومنسجم مع قيم الجمهورية.

ويحذر خبراء من أن ترك الساحة فارغة قد يسمح للتنظيم بإعادة تجميع صفوفه والعودة للعمل تحت واجهات جديدة وأسماء مختلفة، مستغلًا الفراغ المؤسسي.

السيناريوهات المحتملة


يواجه تنظيم الإخوان في أوروبا مرحلة هي الأكثر تعقيدًا في تاريخه، فبعد أن كانت القارة ملاذًا آمنًا وساحة استراتيجية للتوسع منذ الخمسينيات، تحولت إلى بيئة معادية بشكل متزايد.

من جانبه، أكد إبراهيم ربيع، الخبير في شؤون الجماعات الإرهابية، الضربة الفرنسية لم تكن معزولة، فهي تأتي في سياق "صحوة أوروبية" أوسع نطاقًا، حيث تتزايد الضغوط السياسية والأمنية على شبكات الإخوان في دول مثل ألمانيا، النمسا، وبلجيكا.

وأضاف -في حديثه لـ"العرب مباشر"-، أن من الممكن تلخيص مستقبل نفوذ التنظيم في أوروبا في السيناريوهات التالية.

سيناريو الانكماش والتخفي: هذا هو السيناريو الأكثر ترجيحًا على المدى القصير، مع تزايد الرقابة وتجفيف منابع التمويل، سيلجأ التنظيم إلى العمل بشكل أكثر سرية، متخليًا عن المؤسسات الكبرى والواجهات المعروفة.

ستتحول الاستراتيجية من التوسع الأفقي إلى الحفاظ على الشبكات القائمة، والتركيز على العمل في دوائر مغلقة وعبر الفضاء الرقمي، مع تجنب أي صدام مباشر مع السلطات.

وتابع: ربيع، أما ثاني السيناريوهات فهو إعادة التموضع الجغرافي، في مواجهة الضغوط في غرب أوروبا، قد يسعى التنظيم إلى نقل ثقله التنظيمي والمالي إلى مناطق أخرى توفر بيئة أقل تشددًا.

 دول شرق أوروبا، التي لديها جاليات مسلمة وتاريخ أقل في مواجهة الإسلام السياسي، قد تمثل وجهة محتملة، وإن كانت قدرة التنظيم على بناء نفوذ فيها ما تزال محدودة، كما أن دولًا مثل بريطانيا، التي تتبنى نهجًا أقل صرامة، قد تظل مركزًا مهمًا للقيادة والتخطيط.

سيناريو "الذئاب المنفردة" والتطرف، هذا هو السيناريو الأكثر خطورة. يرى بعض المحللين أن تضييق الخناق على المؤسسات "المنظمة" قد يدفع بعض العناصر، خاصة من الأجيال الشابة، نحو أشكال أكثر فردية وعنفًا من التطرف، بعيدًا عن السيطرة الهيكلية للجماعة، فبينما لا يمارس الإخوان العنف مباشرة في أوروبا، فإن خطابهم الأيديولوجي يخلق بيئة خصبة يمكن أن تنمو فيها جماعات أكثر راديكالية.

حجم التراجع


يقول إبراهيم ربيع، الخبير في شؤون الجماعات الإرهابية: حجم التراجع الذي يشهده التنظيم كبير واستراتيجي، لقد فقدوا قدرتهم على العمل العلني تحت لافتات أكاديمية وثقافية كبرى، مما يفقدهم الشرعية والقدرة على استقطاب وتجنيد كوادر جديدة بسهولة، كما أن الحملات الأمنية المستمرة في فرنسا وبلجيكا وألمانيا تستهدف بشكل مباشر الشبكات المالية، مما يحد من قدرتهم على تمويل الجمعيات والمساجد والمراكز الإعلامية التابعة لهم.

وتابع، نقل النشاط إلى دول أخرى هو خيار قائم، لكنه يواجه تحديات، فالتنظيم بنى شبكاته في دول مثل فرنسا وألمانيا على مدى أكثر من ستة عقود، مستفيدًا من هجرة الأجيال الأولى، مضيفًا، بناء شبكات مماثلة في بيئات جديدة كشرق أوروبا يتطلب وقتًا وموارد قد لا تكون متاحة حاليًا، لذلك، من المرجح أن يظل غرب أوروبا هو الساحة الرئيسية للصراع، مع محاولات لإنشاء "ملاذات آمنة" في مناطق أخرى كخطة بديلة.

واختتم، في المحصلة، يبدو أن "العصر الذهبي" للإخوان في أوروبا قد انتهى، التنظيم الذي كان يُنظر إليه في بعض الأوساط كشريك محتمل في الحوار، يُعامل الآن بشكل متزايد كتهديد أمني وفكري، ورغم أن الجماعة أثبتت مرونتها وقدرتها على التكيف عبر تاريخها، فإن حجم الضغوط الحالية، المتزامنة في عدة دول، يضع مستقبلها في القارة الأوروبية على المحك.