هدوء حذر في غزة.. وقف إطلاق النار ينجو من أول اختبار
هدوء حذر في غزة.. وقف إطلاق النار ينجو من أول اختبار

لم يكد الحبر يجف على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حتى وجد نفسه أمام أول اختبارٍ قاسٍ يهدد بانهياره المبكر، فبعد أيام قليلة من الهدوء النسبي الذي عاشه القطاع، دوّت من جديد أصوات الانفجارات في سماء غزة إثر غارات إسرائيلية أعقبت مقتل جنديين إسرائيليين ورغم التوتر المفاجئ، أكدت كلٌّ من إسرائيل وحركة حماس تمسكهما بالهدنة، في مشهد يعكس هشاشة التوازن الذي يحكم الميدان، وبينما يسعى الوسطاء والأمريكيون لتثبيت الاتفاق وتمهيد الطريق لمرحلة سياسية جديدة في المنطقة، تتأرجح غزة بين بارقة أمل بالتهدئة الدائمة، وشبح العودة إلى جولة جديدة من العنف، في الوقت ذاته، تتزايد التساؤلات حول قدرة الأطراف على كبح جماح الغضب الميداني، وضمان التزام الفصائل المسلحة بالاتفاق، في ظل ضغوط داخلية متزايدة على حكومة بنيامين نتنياهو من جناحها اليميني، واحتقان شعبي في القطاع المنهك.
تهدئة من الجانبين
نجا اتفاق وقف إطلاق النار في غزة من أول اختبارٍ دمويٍّ له، بعد أن أعلن الجانبان إسرائيل وحماس التزامهما بوقف القتال رغم تبادل الاتهامات بالمسؤولية عن التصعيد.
فقد جاء التصعيد الأخير عقب مقتل ضابطين إسرائيليين في هجوم داخل القطاع، لتردّ إسرائيل بسلسلة غارات عنيفة طالت عدة مناطق في غزة، وأسفرت -وفق وزارة الصحة في القطاع- عن مقتل أكثر من 44 فلسطينيًا وإصابة العشرات.
وبينما ساد الذعر في المستشفيات المزدحمة بالمصابين، أعلن الجيش الإسرائيلي -في بيان- أنه سيُعيد "تطبيق وقف النار بتوجيه من القيادة السياسية"، في حين أكدت كتائب القسام التزامها الكامل بالهدنة، نافيةً مشاركتها في أي هجمات ضد القوات الإسرائيلية.
تصريحات حماس جاءت مترافقة مع إعلان جناحها العسكري العثور على جثة رهينة إسرائيلي خلال عمليات البحث الميداني، مشيرة إلى استعدادها لتسليمها "إذا سمحت الظروف"، لكنها حذرت من أن أي تصعيد جديد قد يعرقل جهود البحث عن باقي المفقودين.
إنقاذ سياسي
في المقابل، حاولت الحكومة الإسرائيلية احتواء الموقف سريعًا بعد أن أرسلت واشنطن مبعوثها الخاص ستيف ويتكوف وصهر الرئيس الأمريكي جاريد كوشنر إلى تل أبيب، في خطوة وُصفت بأنها محاولة "إنقاذ سياسي" للاتفاق الذي رعته الولايات المتحدة خلال الأسابيع الماضية.
كما كشفت مصادر دبلوماسية، أن نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس يعتزم زيارة المنطقة قريبًا لبحث آليات تثبيت الهدنة وملف المساعدات الإنسانية لغزة.
ورغم التصعيد، أعلنت إسرائيل استئناف مرور المساعدات الإنسانية إلى القطاع بعد توقف مؤقت، في إشارة إلى رغبتها في الحفاظ على التزاماتها الدولية ضمن الاتفاق. إلا أن معبر رفح بقي مغلقًا أمام الحركة البرية، بانتظار التفاهم حول ملف الأسرى وجثث الرهائن الإسرائيليين.
سياسيًا، يواجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ضغوطًا متزايدة من أحزاب اليمين المتطرف داخل ائتلافه، إذ وصف وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير قرار استئناف المساعدات بأنه "خضوع مهين".
هذا الموقف يعكس التحدي الداخلي الذي يواجه نتنياهو بين الالتزام بالتهدئة التي تفرضها واشنطن وبين مطالب حلفائه المتشددين بالتصعيد العسكري.
احتقان داخلي
أما في الجانب الفلسطيني، فتبدو غزة في حالة احتقان داخلي، إذ تشهد مناطق القطاع منذ بدء الهدنة "حملة أمنية" واسعة تشنّها حماس ضد من تصفهم بـ"المتعاونين والمرتزقة وقطاع الطرق"، ما أثار مخاوف من عودة الانفلات الأمني وتصفية الحسابات الداخلية تحت غطاء الأمن.
ووفق مراقبون، فإن المشهد "ينذر بتفجر داخلي جديد إذا استمرت الفصائل في إدارة الصراع بوسائل أمنية دون رؤية سياسية واضحة"، لاسيما أن "الميليشيات المدعومة من إسرائيل في بعض المناطق الجنوبية تسهم في إبقاء حالة التوتر قائمة، عبر هجمات خاطفة داخل القطاع ثم العودة إلى مناطق محمية تحت السيطرة الإسرائيلية".
على الصعيد الدولي، تتابع واشنطن الموقف عن كثب، مؤكدة أن تثبيت وقف النار يمثل "أولوية استراتيجية" لإدارة ترامب في الشرق الأوسط.
ويقول مسؤول أمريكي لشبكة "سي إن إن": إن الإدارة "تعمل بجد مع شركائها لتنفيذ مراحل الاتفاق المقبلة، التي تشمل إعادة الإعمار والإفراج عن الأسرى".
اختبار لقدرة واشنطن
يرى المحلل السياسي الفلسطيني، يحيى قاعود، أن ما يجري في غزة اليوم يعكس مأزقًا مزدوجًا بين الحاجة إلى التهدئة وغياب الثقة الاستراتيجية بين الأطراف.
ويقول قاعود في حديثه لـ"العرب مباشر": إن اتفاق وقف النار الأخير ليس مجرد ترتيبات ميدانية، بل هو اختبار لقدرة واشنطن على فرض معادلة جديدة بين تل أبيب وحماس بعد سنوات من الحروب غير الحاسمة".
ويضيف: أن إسرائيل تواجه ضغوطًا داخلية خانقة تجعل من الصعب على نتنياهو الالتزام الكامل بالاتفاق، إذ يحتاج إلى موازنة الموقف بين اليمين المتطرف والضغوط الأمريكية، فيما تعاني حماس من ضغوط إنسانية واقتصادية وشعبية تدفعها للبقاء في إطار التهدئة على الأقل مؤقتًا.
ويحذر قاعود من أن "أي حادثة محدودة قد تُشعل مجددًا نار الحرب"، لافتًا إلى أن غياب آلية مراقبة دولية محايدة يجعل من تطبيق الاتفاق أمرًا هشًا يعتمد على نوايا الأطراف أكثر من ضمانات واضحة.
ويختتم بالقول: إن "غزة اليوم ليست بين الحرب والسلام فقط، بل بين اختبار الوعي السياسي ومسؤولية البقاء".