السودان بين أمراء الحرب واقتصاد الظل.. كيف تبتلع الحرب موارد الدولة؟

السودان بين أمراء الحرب واقتصاد الظل.. كيف تبتلع الحرب موارد الدولة؟

السودان بين أمراء الحرب واقتصاد الظل.. كيف تبتلع الحرب موارد الدولة؟
الحرب السودانية

وسط دخان الحرب المستعرة في السودان، تتكشف فصول أخرى من المأساة لا تتعلق بالرصاص والدماء فقط، بل بالانهيار البطيء لمقومات الدولة نفسها، فبينما تتوجه الأنظار إلى المعارك الميدانية بين الجيش وقوات الدعم السريع، هناك جبهة موازية لا تقل ضراوة تدور في عمق الاقتصاد الوطني، حيث تُستنزف الموارد وتُفكك المؤسسات ويُدفع المواطن البسيط الثمن الأكبر، ففي بلد كان يراهن على ثرواته المعدنية والزراعية الهائلة، أصبحت هذه الموارد ذاتها أداة لتغذية آلة الحرب وتعزيز اقتصاد الظل، أرقام مرعبة تتحدث عن خسائر بمليارات الدولارات، وواقع يُنذر بمستقبل اقتصادي قاتم إذا لم يُوضع حد للنزاع الدامي.

*نزيف مستمر*


بينما تستمر المعارك على الأرض في السودان منذ أكثر من عامين، بدأت ملامح الانهيار الاقتصادي تتجلى بأشكال متعددة، من فقدان الوظائف وتآكل الإيرادات العامة إلى صعود اقتصاد موازٍ بات يقوّض الدولة نفسها.

ورغم صعوبة تحديد حجم دقيق للخسائر الاقتصادية جرّاء الحرب، لكن وزير المالية سبق وأشار قبل نحو عام إلى وجود تكهّنات بأنّها قد تصل إلى 200 مليار دولار دون حساب خسائر الفرص الاقتصادية الضائعة للبلاد.

في جلسة حوارية نظّمها المركز الأفريقي للعدالة والسلام في كمبالا ضمن حملة "أصوات السلام"، كشف الخبير الاقتصادي رضوان كندة أن التكلفة السنوية للحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع تبلغ نحو 2.4 مليار دولار، يتقاسمها الطرفان بواقع 1.2 مليار دولار لكل جهة.

هذه الأرقام تعكس استنزافًا يوميًا لموارد البلاد الشحيحة أصلًا، في حين يتقلص الأمل في استعادة عجلة الاقتصاد الوطني.

*أرقام مفزعة*


واحدة من أبرز المفارقات التي طرحها كندة تتمثل في الذهب، والذي يُعد من أهم الموارد الطبيعية في السودان، فإيرادات الذهب، التي يُفترض أن تُعزز موازنة الدولة، تبلغ 4 مليارات دولار سنويًا، لكنها في الواقع تذهب في معظمها إلى "جيوب اقتصادية خفية" تشكلت بفعل الحرب.

وتلك الشبكات غير الرسمية تُسهم في تعزيز مناخ الفساد وترسيخ النفوذ العسكري-الاقتصادي، مما يُصعّب من فرص السلام، لأن كثيرين باتوا يجنون أرباحًا من استمرار الفوضى.

كندة لفت أيضًا إلى فقدان نحو 15 مليون وظيفة منذ اندلاع الحرب، وهو رقم يعكس حجم الكارثة الاجتماعية، كما أن النظام الضريبي في السودان، وفقًا له، انهار فعليًا، حيث فُقد نحو 90% من الإيرادات العامة، في ظل غياب كامل للموازنة العامة واعتماد كامل على متطلبات الحرب بدلًا من تخطيط اقتصادي سليم.

ولم تكن هذه الأرقام سوى قمة جبل الجليد، فقد حذّر كندة من أن البلاد تغرق تدريجيًا في اقتصاد ظل موازٍ، تغذيه الحرب والتهريب والولاءات السياسية.

كما نبّه إلى وجود أطماع دولية متزايدة في ثروات السودان، وعلى رأسها الأراضي الزراعية والمياه، في وقت يعاني فيه العالم من أزمات غذاء ومياه غير مسبوقة.

*آثار كارثية*


أما الخبيرة في دراسات السلام هنادي المك، فقد ألقت الضوء على الأثر الكارثي لقوانين الطوارئ التي فُرضت بحجة الحرب، مشيرة إلى أنها عمّقت الأزمة الاقتصادية في ولايات حدودية مثل النيل الأزرق.

فبينما سمحت إثيوبيا بمرور السلع دون جمارك، عمدت السلطات المحلية إلى فرض ضرائب، مما زاد من معاناة المواطنين، كما حذّرت المك من انهيار الإنتاج التقليدي، الذي يُعد المصدر الرئيسي للعيش لملايين السودانيين، موضحة أن هناك أطرافًا تعمد إلى تعطيل الإنتاج العام، وخلق منظومات اقتصادية بديلة هدفها جني أرباح شخصية هائلة على حساب مصلحة الوطن والمواطن.

*أمراء الحرب*


أما على مستوى الكارثة الإنسانية، فقد أكدت تقارير صادرة عن منظمة الهجرة الدولية ومفوضية اللاجئين، أن الحرب في السودان تسببت في نزوح أكثر من 13 مليون شخص داخليًا وخارجيًا، ما يجعلها واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العالم حاليًا.

وفي ظل هذا الواقع المأساوي، حذّر كندة من ظاهرة "أمراء الحرب" الذين راكموا ثروات طائلة من خلال تجارة السلاح والموارد، مطالبًا المجتمع الدولي بتكثيف الجهود نحو وقف القتال وإعادة إعمار الاقتصاد الوطني، قبل أن يصل السودان إلى نقطة اللاعودة.

*وقف الحرب.. الأمل الأخير*


من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي السوداني د. محمد الناير، أن ما يشهده السودان حاليًا لا يُعد مجرد أزمة عابرة، بل انهيارًا بنيويًا متسارعًا لكل مكونات الاقتصاد، سببه الرئيسي هو استمرار الحرب واستحواذ جماعات مسلحة على الموارد الحيوية، ويشير أن الصراع المسلح حوّل الاقتصاد السوداني من اقتصاد إنتاج وتنمية إلى اقتصاد نهب وسيطرة وولاءات، ما أدى إلى تمزيق السوق الداخلي وتآكل سلاسل التوريد بشكل شبه كامل.

وأضاف في حديثه لـ"العرب مباشر": أن الحرب الدائرة في السودان لم تؤدِّ فقط إلى استنزاف الموارد المالية، بل ضربت في عمق القطاعات الإنتاجية التي كانت تشكّل العمود الفقري للاقتصاد الوطني، وعلى رأسها الزراعة. 

ويوضح، أن هذا القطاع، الذي يمثل نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي ويوفر وظائف لحوالي 65% من القوى العاملة، تضرر بشكل بالغ، حيث دُمّر ما يزيد على 70% من بنيته، فضلًا عن تعطل الأنشطة المرتبطة به مثل الصناعات الزراعية وتربية الماشية.
ويشير الناير إلى أن القطاع الصناعي تكبّد خسائر فادحة هو الآخر، خاصة وأن أغلب المصانع متمركزة في العاصمة الخرطوم، التي تحوّلت إلى ساحة قتال شرس، وتُقدّر الخسائر في هذا القطاع بما لا يقل عن 50 مليار دولار بعد تدمير 550 مصنعًا، بحسب بيانات وزارة الصناعة السودانية.

كذلك، أصيبت البنية التحتية بضرر جسيم، حيث فقد قطاع الخدمات 75% من وحداته التشغيلية، فيما انخفض إنتاج النفط إلى أقل من النصف، ويخلص الناير إلى أن التعافي الاقتصادي بات مرهونًا بوقف شامل للحرب وخطة إنعاش وطني جريئة تعيد الحياة للقطاعات الإنتاجية.