مخيمات تغرق ومساعدات تتعثر.. شتاء غزة يفضح هشاشة الهدنة
مخيمات تغرق ومساعدات تتعثر.. شتاء غزة يفضح هشاشة الهدنة
تخرج غزة من نار الحرب لتسقط مباشرة في امتحان الشتاء القاسي، فصلٌ طالما مثّل عبئًا على سكان القطاع المحاصر، لكنه هذا العام تحوّل إلى كارثة إنسانية متكاملة، فبعد أن تلاشت أصوات المدافع وحلّ مكانها الصمت الثقيل، وجد مئات الآلاف أنفسهم محاصرين في خيام مهلهلة لا تقوى على صدّ المطر ولا ريح البحر، فيما تحوّل الوحل إلى عدوّ إضافي يطاردهم في كل خطوة، وبينما يفترض أن تشكّل الهدنة فرصة للتقاط الأنفاس، جاءت العواصف العاتية لتكشف هشاشة الملاجئ، وتعرّي واقع البنية التحتية المنهارة، وتدفع بعشرات الآلاف إلى سباق يومي لإنقاذ ما تبقى من متاعهم وحياتهم، إنّه شتاء يختبر قدرة النازحين على الصمود في ظروف لا تحتمل، ويضع المجتمع الدولي أمام تساؤلات ملحّة حول مسؤولياته، في وقت تتسع فيه رقعة الفقر والمرض، وتتراجع فيه القدرة على مواجهة موجات البرد والجوع والفيضانات.
شتاء لا يرحم
في قلب هذا الشتاء يعيش النازحون في قطاع غزة واحدة من أقسى مراحل معاناتهم منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من عامين، فقد عصفت الرياح العاتية والأمطار الغزيرة بعشرات الآلاف من الخيام التي لجأ إليها السكان بعد نزوح جماعي غير مسبوق، حيث تكدّست العائلات فوق بعضها في مخيمات لا تتوفر فيها شروط الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة، ومع كل موجة مطر، تنكشف هشاشة هذه الخيام التي تحوّلت إلى عبء يعمّق الجراح، بدلًا من أن تكون ملاذًا آمنًا لضحايا الحرب.
وتقدّر الجهات الحكومية في غزة، التي تديرها حركة حماس، حجم الخسائر الناتجة عن العواصف الأخيرة بنحو 4.5 مليون دولار، تشمل أضرارًا لحقت بأكثر من 22 ألف خيمة، إضافة إلى مواد غذائية وأدوية ومعدات طهي واحتياجات أساسية غرقت في الوحل، وتزامن ذلك مع تأكيد منظمات إغاثة محلية أن القطاع يحتاج إلى نحو 300 ألف خيمة جديدة لتلبية الحد الأدنى للاحتياجات الإنسانية، في ظل ندرة مواد البناء وغياب البدائل.
الطوفان يجرف ما تبقى
قصة أبو خالد المصري، تبدو نموذجًا لمعاناة آلاف الأسر، فقد وجد الرجل نفسه يفرّ بمتعلّقات أسرته من خيمة أقيمت على الشاطئ، على بعد أمتار قليلة من البحر، بعدما وصلت مياه الأمواج إلى داخلها، مهددة بابتلاع كل ما يملكون، ويقول المصري، بصوت يخفي داخله مرارة عميقة: "ولا فيه دفا، ولا فيه حاجة.. منذ الأمس وأنا قاعد عند الجيران لأهرب من البرد".
عاشت الأسرة ليلة كاملة في محاولات مضنية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الملابس والفراش والبطانيات، فالمطر لا يرحم، والخيمة التي يفترض أن تحميهم أصبحت مصيدة ماء، لا تقي من الرياح ولا تمنع الرطوبة، ويضيف: "طوال الليل كنا نحاول اخراج المياه من الخيمة بلا جدوى".
ولا يختلف المشهد في مخيم المواصي جنوب غزة، حيث لجأ آلاف النازحين بعد انهيار هدنة سابقة، وهناك، يُقيم السكان خلف جدار رملي صغير يحاولون به صدّ غضب البحر، بينما تحوّلت الخيام المتلاصقة إلى ما يشبه أحواضًا من الطين لا يمكن العيش فيها إلا بتكيّف قاسٍ يشبه النجاة اليومية بالحد الأدنى.
البنية التحتية.. ضربة أخرى
الفيضانات لا تقتصر على الخيام وحدها، فشبكات المياه المؤقتة وخزانات الصرف الصحي ومنشآت الطاقة الشمسية الصغيرة انهارت بدورها، ما أدى إلى أزمة مضاعفة في الخدمات الأساسية، ويشير إسماعيل الثوابتة، مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إلى أن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية تتجاوز قيمتها مليوني دولار، بينما انهارت ملاجئ الطوارئ في عدة مناطق، محوّلة المخيمات إلى تجمعات غارقة في الماء والوحل.
وتؤكد منظمة "يونيسف" أن مخزونها من المواد الخاصة بإيواء الأطفال والعائلات سينفد خلال أيام، محذرة من كارثة إنسانية أوسع إذا لم يُسمح بدخول المزيد من المساعدات بصورة عاجلة. وتقول المتحدثة باسم المنظمة، تيس إنغرام: "هذا المزيج القاتل من البرد والأمطار وسوء الصرف الصحي يهدد حياة الأطفال بشكل مباشر".
مرض فوق المرض
مع تدفق المياه الملوثة وانتشار البرك الموحلة، ارتفعت معدلات الإصابة بأمراض المعدة والأمراض الجلدية، وازدادت مخاوف المستشفيات المنهكة من تفشي أوبئة جديدة. فالكثير من النازحين يعتمدون على حفر صغيرة قرب الخيام كبديل عن المراحيض، ومع الأمطار تتحول هذه الحفر إلى مستنقعات مفتوحة تسرّب الروائح والأمراض.
الازدحام الشديد وقرب مكبات القمامة من أماكن المعيشة يضاعفان المشكلة. فمرافق جمع القمامة تعرّضت للتدمير أو بات الوصول إليها مستحيلًا، بينما امتلأت برك تخزين مياه الأمطار بالمياه الملوثة بسبب تحطم خطوط الصرف الصحي.
ويخشى العاملون الصحيون من أن تؤدي هذه البيئة إلى تفشّي موجات جديدة من الإسهال الحاد والتهابات الجلد، في وقت يعاني فيه السكان أساسًا من سوء تغذية يضعف مناعتهم.

العرب مباشر
الكلمات