قابس بين سموم المصنع وأبواق التحريض.. معركة جديدة بين الرئاسة والإخوان

قابس بين سموم المصنع وأبواق التحريض.. معركة جديدة بين الرئاسة والإخوان

قابس بين سموم المصنع وأبواق التحريض.. معركة جديدة بين الرئاسة والإخوان
قابس

في مشهد تتقاطع فيه السياسة بالبيئة، اندلعت شرارة جديدة في الجنوب التونسي، حيث تحوّل التلوث الصناعي في محافظة قابس إلى ساحة مواجهة بين الشارع والرئاسة، وبين الدولة وخصومها القدامى من حركة الإخوان. 

الرئيس قيس سعيد، الذي اعتاد توجيه انتقادات حادة للجماعة منذ إطاحته بمنظومتها السياسية عام 2021، عاد ليفتح النار مجددًا، متهمًا “الأبواق المأجورة” بالسعي إلى استثمار غضب الأهالي وتحويل الاحتجاجات البيئية إلى منصة للفوضى، وبينما تتواصل مظاهرات سكان "قابس" المطالبين بإغلاق المصنع الكيميائي الملوِّث، يجد سعيد نفسه أمام معادلة معقدة، كيف يواجه “حرب الإخوان الناعمة” دون أن يغفل المطالب الاجتماعية المشروعة.

 في المقابل، يرى مراقبون أن خطاب سعيد الأخير يعكس قناعة رئاسية بأن معركة “تحرير تونس” لم تنتهِ بعد، بل انتقلت من البرلمان إلى الشارع، ومن السياسة إلى البيئة.

أبواق مأجورة


عاد الرئيس التونسي قيس سعيد إلى مهاجمة جماعة الإخوان المسلمين مجددًا، متهمًا إياها بالوقوف وراء تأجيج الاضطرابات في محافظة قابس جنوب شرقي البلاد، حيث تستمر المظاهرات احتجاجًا على الأوضاع البيئية المتدهورة بفعل انبعاثات المصنع الكيميائي القائم في المنطقة.

وخلال لقاء جمعه في قصر قرطاج بكل من رئيس البرلمان إبراهيم بودربالة ورئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم عماد الدربالي، شدد سعيد على أن ما يجري في قابس ليس مجرد احتجاجات بيئية، بل محاولة "مدبرة من قوى مأجورة تتلقى تمويلًا خارجيًا" في إشارة واضحة إلى حركة النهضة، الذراع السياسية لجماعة الإخوان في تونس.

قال سعيد -في كلمته-: "هؤلاء الذين تُغدق عليهم الأموال من الخارج حتى يكونوا أبواقًا مأجورة ومسعورة، لم يدركوا أن أصواتهم أصابها الصدأ، ولم يعد أحد يصغي إليهم"، مؤكدًا أن تونس "ستظل ماضية في طريقها نحو التحرر الكامل من قوى التآمر والفساد".

أزمة قابس البيئية


ويأتي هذا التصعيد الخطابي في وقت تتصاعد فيه أزمة قابس البيئية إلى مستويات غير مسبوقة، فقد شهدت المحافظة خلال الأسابيع الأخيرة احتجاجات واسعة للمطالبة بإغلاق المصنع الكيميائي في منطقة غنوش، بعد تزايد حالات الاختناق بين السكان وانتشار الأمراض التنفسية، حيث تشير بيانات محلية إلى تسجيل أكثر من 100 حالة نقل إلى المستشفيات خلال شهري سبتمبر وأكتوبر بسبب التلوث.

ويُعد المجمع الكيميائي في قابس أحد أضخم المؤسسات الصناعية في البلاد، إذ يوفر نحو 4000 فرصة عمل، ما يجعل مسألة تفكيكه معقدة اقتصاديًا، رغم أضراره البيئية الواضحة، ومن هنا تتأرجح الحكومة بين الاستجابة لمطالب السكان وبين المخاوف من فقدان آلاف الوظائف في منطقة تعاني أصلًا من البطالة.

لكن سعيد بدا حازمًا في رفضه لأي استغلال سياسي للأزمة، مؤكدًا أن "من يريدون توظيف معاناة الشعب لتحقيق مكاسب حزبية فاتهم أن الوعي الشعبي تجاوز ألاعيبهم"، مشيرًا إلى ضرورة توحيد صفوف الأهالي وقوات الأمن لمواجهة من يسعون إلى إشعال الفوضى باسم البيئة".

تحركات خبيثة


من جانب آخر، لم يتأخر ردّ الإخوان، إذ كثّف عدد من قياداتهم وناشطيهم من تحريضهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أبرزهم: رفيق عبد السلام، وزير الخارجية الأسبق وصهر زعيم الحركة راشد الغنوشي، الذي كتب مؤخرًا أن "الثورة القادمة ستنطلق من قابس"، في إشارة مباشرة إلى رغبة الجماعة في إعادة إنتاج سيناريو عام 2011 من بوابة الغضب الشعبي.

ويرى محللون أن استحضار الإخوان لشعارات “الثورة” يعكس سعيهم لاستعادة موقعهم في المشهد العام، بعدما فقدوا نفوذهم السياسي عقب قرارات قيس سعيد في يوليو 2021، والتي قضت بتجميد البرلمان وإقالة الحكومة التي كانت تهيمن عليها الحركة.

في المقابل، يشير مراقبون إلى أن الأزمة البيئية في قابس ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى عقود من الإهمال الحكومي وسوء التخطيط الصناعي.

 ويقول الباحث في الشأن البيئي محمد بن عبد الله: إن "المنطقة عانت لعقود من تلوث البحر والهواء نتيجة تسربات الفوسفوجيبس، دون أن تتحرك الحكومات المتعاقبة بشكل جدي"، معتبرًا أن "توظيف الإخوان لهذه الأزمة محاولة بائسة لاستعادة الشرعية التي فقدوها".

أما من زاوية الرئاسة، فقد دعا سعيد إلى “مقاربات جديدة وجذرية” لحل الأزمة، مؤكدًا أن “المعالجة لا يمكن أن تتم عبر حلول تقليدية، بل ضمن استراتيجية وطنية شاملة تشمل كل مناطق الجمهورية”.

 وأضاف: أن تونس "في موعد مع التاريخ، وشعبها لن يقبل بديلاً عن التحرر النهائي من كل أشكال الهيمنة السياسية أو الاقتصادية".

إعادة إنتاج الفوضى


خطاب سعيد الأخير، وإن بدا هجوميًا في لغته، يعكس أيضًا تحركًا رئاسيًا نحو إعادة ضبط المشهد الداخلي في مواجهة خصومه الذين يسعون، بحسب قوله، إلى إعادة إنتاج الفوضى تحت لافتات جديدة.
من جانبه، يرى المحلل السياسي التونسي عبد المجيد العدواني، أن خطاب الرئيس قيس سعيد الأخير حول أحداث قابس لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق السياسي العام الذي تعيشه تونس منذ عام 2021، مؤكدًا أن ما يحدث هو "تجاذب حاد بين مشروع الدولة الوطنية الذي يقوده سعيد، ومشروع الإسلام السياسي الذي يسعى إلى البقاء حيًا عبر كل الأزمات".

ويضيف العدواني في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن حركة الإخوان "تحاول دومًا إعادة تدوير خطاب الثورة والحرمان الاجتماعي لاستمالة الشارع، لكنها تواجه اليوم مجتمعًا تغيّر وبدأ يفرّق بين المطالب الشرعية والتهييج السياسي".

ويتابع العدواني: أن أزمة قابس تمثل لها جانبان مهمين، فمن جهة يمكن أن تفتح الباب أمام الدولة لإعادة النظر في سياساتها البيئية والتنموية، ومن جهة أخرى هي اختبار لمدى قدرة السلطة على منع انزلاق الشارع إلى الفوضى".

ويرى، أن نجاح سعيد في إدارة الملف سيعزز صورته كرجل دولة قادر على الجمع بين الحزم والإصلاح، "أما الفشل فسيمنح الإخوان مساحة جديدة للعودة إلى الواجهة عبر خطاب المظلومية".

ويختم العدواني بالقول: إن المعركة في تونس لم تعد حول من يحكم، بل حول من يملك الحق في تمثيل إرادة الشعب، الدولة الحديثة، أم الجماعة التي تتقن استثمار الفوضى وتغذيتها سياسيًا وإعلاميًا.