من محراب العلم إلى منبر الإفتاء.. صالح الفوزان يتسلم أمانة الفتوى في السعودية

من محراب العلم إلى منبر الإفتاء.. صالح الفوزان يتسلم أمانة الفتوى في السعودية

من محراب العلم إلى منبر الإفتاء.. صالح الفوزان يتسلم أمانة الفتوى في السعودية
صالح الفوزان

في لحظة تمثل امتدادًا لتاريخ طويل من العلم والفتوى، أعلنت المملكة العربية السعودية عن تعيين الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان مفتيًا عامًا للمملكة ورئيسًا لهيئة كبار العلماء، خلفًا للراحل الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، الحدث الذي حظي باهتمام واسع في الأوساط الدينية والعلمية لا يعبّر فقط عن انتقال رسمي في موقع الإفتاء، بل يرمز أيضًا إلى استمرارية مدرسة شرعية متجذرة في تقاليد الفقه السني الوسطي، تلك التي توازن بين الالتزام بالنصوص واستيعاب تحديات العصر، يُنظر إلى الشيخ الفوزان كأحد أبرز علماء السعودية المعاصرين، ممن جمعوا بين عمق التكوين الفقهي واتساع الأفق العلمي، مستندًا إلى إرث من التعليم والتأليف والإرشاد امتدّ لعقود. 

تعيينه في هذا المنصب الرفيع يفتح صفحة جديدة في مسار الإفتاء السعودي، ويعيد إلى الواجهة مسألة تكييف الخطاب الديني مع التحولات الفكرية والاجتماعية في العالم الإسلامي.

من هو؟


وُلد الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عام 1354هـ (1935م) في بلدة الشماسية بمنطقة القصيم، في بيئة ريفية متواضعة، فقد فيها والده في طفولته المبكرة، لكن اليتم لم يمنعه من التشبّث بطريق العلم. 
بدأ بتعلّم القرآن ومبادئ الكتابة على يد الشيخ حمود بن سليمان التلال، ثم التحق بالمدرسة الحكومية في بلدته، قبل أن ينتقل إلى المدرسة الفيصلية في بريدة، حيث بدأت ملامح شخصيته العلمية تتبلور.

مع نهاية دراسته النظامية، عمل الفوزان معلمًا، ثم التحق بالمعهد العلمي ببريدة، لتبدأ رحلته الأكاديمية الحقيقية، واصل دراسته في كلية الشريعة بالرياض، حيث حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الفقه الإسلامي، متخصّصًا في قضايا المواريث وأحكام الأطعمة، وهو تخصص فقهي دقيق يبرز ميله إلى البحث الفقهي المقارن والاستدلال الدقيق.

تدرّج الشيخ الفوزان في مسيرته الأكاديمية، فدرّس في المعهد العلمي، ثم في كلية الشريعة، قبل أن يُعيّن أستاذًا في كلية أصول الدين والمعهد العالي للقضاء، الذي تولّى إدارته لاحقًا. 

هذا التنوّع في المواقع الأكاديمية أتاح له تكوين رؤية شمولية للمناهج الفقهية وأصول الفتوى، ما أهّله ليكون عضوًا في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء منذ عام 1412هـ (1991م).



منظومته التعليمية الفكرية


إلى جانب عمله الأكاديمي، عُرف الشيخ الفوزان بارتباطه الوثيق بالناس عبر المنابر والإذاعة، ولا سيّما من خلال مشاركته الدائمة في برنامج «نور على الدرب»، أحد أقدم البرامج الدينية في السعودية.

كما تولّى إمامة جامع الأمير متعب بن عبدالعزيز في حي الملز بالرياض، وكان صوته حاضرًا في مواسم الحج ضمن لجنة الإشراف على الدعاة، ما رسّخ مكانته كأحد أبرز العلماء العاملين في الميدان الدعوي.

تتلمذ الشيخ الفوزان على يد نخبة من كبار العلماء، أبرزهم المفتي السابق الشيخ عبدالعزيز بن باز، والعالم المفسّر محمد الأمين الشنقيطي، والعالم الأصولي عبدالرزاق عفيفي، والشيخ عبدالله بن حميد، إلى جانب استفادته من مشايخ الأزهر الشريف الذين شكّلوا جزءًا من منظومته التعليمية الفكرية، وهو ما منح تكوينه الفقهي طابعًا متوازنًا بين المدرسة النجدية والأزهرية.

يمتلك الفوزان رصيدًا علميًا ضخمًا من المؤلفات، تشمل كتبًا في العقيدة والفقه والدعوة، مثل: «الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد»، و«شرح العقيدة الواسطية»، و«التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية»، و«أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية»، إضافةً إلى «الخطب المنبرية» التي جمعت بين الوعظ والتحليل الاجتماعي.
أسلوبه في الكتابة يتميز بالوضوح والصرامة المنهجية، وهو ما جعله مرجعًا في قضايا الفقه والعقيدة عند طلاب العلم.

يُعد الفوزان رابع من يتولّى منصب المفتي العام للمملكة منذ تأسيسه عام 1953، بعد المشايخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وعبدالعزيز بن باز، وعبدالعزيز آل الشيخ. ومن المتوقع أن يواصل منهج سلفه في ترسيخ الاعتدال الفقهي والحفاظ على المرجعية العلمية السعودية في عالمٍ تتسارع فيه التحولات الفكرية والسياسية.

تعيين الفوزان في هذا المنصب يأتي في وقتٍ تخوض فيه المملكة مراجعات شاملة لخطابها الديني ضمن رؤية السعودية 2030، التي تسعى إلى مواءمة الأصالة الفقهية مع متطلبات التطور المجتمعي والانفتاح الثقافي. ومن ثمّ، فإن الدور المنتظر من المفتي الجديد لا يقتصر على إصدار الفتاوى، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة صياغة العلاقة بين الدين والمجتمع على أسس أكثر وعيًا وتوازنًا.

في الأوساط الدينية، يُنظر إلى الفوزان كشخصية تجمع بين الهيبة العلمية والتواضع الإنساني، وبين الالتزام بالمنهج السلفي والانفتاح على الحوار الفقهي. لذا، فإن تعيينه يحمل رسالة مزدوجة: تكريم لجيل العلماء الراسخين، وإشارة إلى استمرار المدرسة الوسطية التي تميّز بها الإفتاء السعودي لعقود.