من العرض العسكري إلى الهدوء الميداني.. لماذا غيّرت حماس طريقتها؟
من العرض العسكري إلى الهدوء الميداني.. لماذا غيّرت حماس طريقتها؟

في مشهد يختلف جذريًا عن صور الماضي الصاخبة، جرت أولى عمليات تسليم الرهائن الإسرائيليين من قطاع غزة بهدوء تام، دون منصات ولا مواكب عسكرية ولا عدسات تنتظر اللقطة، هذه المرة، فضّلت حركة حماس أن يكون المشهد صامتًا، وكأنها أرادت القول: إن "الحدث أهم من العرض"، بلا صخب ولا استعراض كما حدث في يناير الماضي، سلّمت الحركة سبعة رهائن إلى فرق اللجنة الدولية للصليب الأحمر في نقاط محددة داخل القطاع، ضمن المرحلة الأولى من "صفقة طوفان الأقصى" لتبادل الأسرى. القرار بالابتعاد عن الأضواء يطرح أسئلة كثيرة حول ما إذا كان هذا التحول نابعًا من حسابات سياسية دقيقة، أم من ضغوط دولية لتجنب تكرار المشاهد التي أثارت غضب تل أبيب آنذاك.
لكن الأكيد أن تسليم الرهائن هذه المرة تم في أجواء مشحونة بالحذر والترقب، تعكس حجم التغيير في تكتيك حماس ورسائلها إلى الداخل والخارج.
تسليم الرهائن
في خطوة وُصفت بأنها الأكثر انضباطًا منذ بدء الحرب على غزة، سلّمت حركة حماس سبعة من الرهائن الإسرائيليين إلى فرق الصليب الأحمر، بعيدًا عن الكاميرات والمراسم الرسمية، في مشهد يوحي بتبدّل نهج الحركة في إدارة ملفاتها الميدانية والإعلامية.
وبحسب المعلومات التي أعلنتها كتائب القسام – الجناح العسكري للحركة – فإن عملية التسليم تأتي ضمن المرحلة الأولى من تنفيذ صفقة "طوفان الأقصى" لتبادل الأسرى، والتي تشمل إطلاق سراح 20 رهينة إسرائيلية، على أن يتم الإفراج عن الدفعة الثانية لاحقًا خلال ساعات.
وشملت الدفعة الأولى كلًّا من: ماتان أنغريست، غالي بيرمان، زئيف بيرمان، ألون أوهل، إيتان هورن، غاي غلبوع دلال، وعمري ميران، وجميعهم أُطلق سراحهم بعد تسليمهم مباشرة إلى فرق الصليب الأحمر في نقاط محددة داخل قطاع غزة.
سرية تامة
وقالت مصادر ميدانية: إن العملية جرت في سرية تامة، دون وجود أي عناصر مسلحة في محيط مناطق التسليم، وهو ما اعتبره مراقبون مؤشرًا على رغبة حماس في تجنّب إثارة أي استفزازات سياسية أو إعلامية، خصوصًا بعد الانتقادات الدولية الواسعة التي واجهتها الحركة في يناير الماضي.
في ذلك الوقت، شهدت غزة استعراضًا مسلحًا واسعًا خلال عملية تبادل الأسرى، حيث ظهرت عناصر من حركتي حماس والجهاد الإسلامي وهم يرتدون الزي العسكري الكامل، على متن سيارات رباعية الدفع ودراجات نارية، في مشهد وُصف حينها بـ"الاستفزازي"، بعدما تحوّل الميدان إلى عرضٍ عسكريّ مصوّر نقلته عدسات الإعلام المحلي والدولي.
أما هذه المرة، فاختارت الحركة الصمت المشهدي، إذ لم تُسمح لأي وسيلة إعلام بالدخول أو التوثيق، كما لم تُقم أي منصات رمزية أو مراسم احتفالية.
واكتفت كتائب القسام بنشر بيان مقتضب عبر قناتها على تليغرام قالت فيه:
"في إطار صفقة طوفان الأقصى لتبادل الأسرى، قررنا الإفراج عن الأسرى الصهاينة الأحياء التالية أسماؤهم"، لتدرج بعده قائمة تضم 20 اسمًا من بين 48 رهينة – أحياءً وأمواتًا – ما زالوا محتجزين لدى فصائل فلسطينية منذ 7 أكتوبر 2023.
وتشير تقارير إلى أن العملية تجري تحت إشراف مباشر من الأمم المتحدة ومصر وقطر، لضمان تنفيذ الصفقة دون عراقيل.
ويقرأ بعض المحللين هذا التغيير في السلوك على أنه محاولة من حماس لإعادة تقديم نفسها بصورة أكثر "انضباطًا" أمام الرأي العام الدولي، خاصة مع بدء المفاوضات السياسية حول مستقبل غزة في ظل التفاهمات الأمنية الأخيرة.
فالحركة، التي لطالما اتُّهمت باستخدام ملف الأسرى كأداة استعراض سياسي، تحاول اليوم – وفق مراقبين – أن تبعث برسالة مفادها أنها "جاهزة للتعامل كطرف منضبط ضمن ترتيبات السلام"، لا كقوة ميدانية خارجة عن السيطرة.
في المقابل، يرى آخرون أن هذا التغيير ليس بالضرورة نابعًا من إرادة داخلية، بل من ضغوط خارجية واضحة، إذ تشير بعض المصادر إلى أن الوسطاء – وعلى رأسهم القاهرة والدوحة – طلبوا من حماس الابتعاد عن المظاهر العسكرية في عمليات التسليم، حفاظًا على مسار التهدئة وعدم منح إسرائيل مبررًا للرد أو التصعيد.
وتأتي هذه العملية في وقتٍ بالغ الحساسية، إذ تستعد القاهرة لاستضافة قمة السلام في شرم الشيخ بمشاركة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وسط ترقب لنتائجها على مستقبل الصراع في غزة.
ومن غير المستبعد – بحسب بعض المحللين – أن يكون هدوء مشهد التسليم اليوم جزءًا من ترتيبات مسبقة تهدف إلى تهيئة الأجواء للقمة، خصوصًا أن أي تصعيد أو مظاهر عسكرية في غزة كانت ستُفسر على أنها رسالة تحدٍ للمجتمع الدولي.
جدل في غزة
في الداخل الفلسطيني، أثارت العملية موجة من الجدل بين من يرى فيها "نضجًا تكتيكيًا" لحماس، ومن يعتبرها تنازلًا مفرطًا عن أدوات الردع الرمزية التي استخدمتها الحركة سابقًا.
فبينما يثمّن البعض ما يصفه بـ"الهدوء المسؤول"، يرى آخرون أن الصمت هذه المرة يحمل في طياته ثمنًا سياسيًا، قد يُستخدم لاحقًا للضغط على الحركة في مفاوضات المراحل اللاحقة من الصفقة.
ومهما يكن الدافع وراء غياب المظاهر، فإن تسليم الرهائن في غزة بعيدًا عن الأضواء يُشكل تحولًا واضحًا في المشهد العام، وربما فاتحة لتكتيك جديد تديره حماس ببرودٍ محسوب، في منطقة لا تعرف عادة سوى لغة السلاح والعرض، وفيما تترقب العواصم تطورات الأيام المقبلة، يبقى السؤال الأهم، هل يمثل هذا "الهدوء المفاجئ" خطوة أولى نحو إعادة التموضع السياسي لحماس، أم أنه مجرد استراحة مؤقتة قبل فصول جديدة من لعبة الحرب والسلام في غزة؟
.