بين البحر والنفط وحدود لبنان.. طهران تُعيد تسليح وكلائها من جديد
بين البحر والنفط وحدود لبنان.. طهران تُعيد تسليح وكلائها من جديد

لم تخرج إيران من الحرب القصيرة التي اندلعت في يونيو الماضي منهكة فحسب، بل مثخنة بجراح عسكرية واستخباراتية ألقت بظلالها على نفوذها الإقليمي الممتد، لكن ما بدا كنكسة حتمية لطهران، سرعان ما تحوّل إلى فصل جديد من إعادة التموضع الاستراتيجي، فطهران، التي تلقت ضربات أمريكية وإسرائيلية غير مسبوقة في عمق أراضيها، عادت لتحرّك أذرعها المنتشرة في اليمن والعراق ولبنان وسوريا، محاولةً ترميم شبكة وكلائها من جديد.
لم يعد المشهد محصورًا بهدير الصواريخ أو بيانات النفي الرسمي، بل في دقة العمليات الميدانية التي عادت تتكثف على أكثر من جبهة، بين تهريب السلاح، وضرب مصالح الطاقة، وتوسيع الجبهات، يبدو أن إيران تراهن على الوقت والخراب معًا: وقتٌ يعيد تشكيل التوازن، وخرابٌ يملأ فراغ النفوذ، فهل هي عودة محسوبة إلى ما قبل الانفجار، أم محاولة يائسة للتمسك بما تبقى من أوراق الردع؟
*تصدّع داخلي.. وجبهات مشتعلة*
بينما تترنح تحت وطأة حرب الـ12 يومًا التي ضربت العمق الإيراني في يونيو، لا تُظهر طهران أي تراجع عن استراتيجيتها التقليدية القائمة على دعم "وكلائها" في الإقليم.
ورغم الخسائر الجسيمة في بنيتها العسكرية، بما في ذلك مقتل قيادات بارزة، تُواصل إيران ضخّ السلاح والأموال للجماعات المسلحة التي تُشكّل خطوط الدفاع والتأثير خارج حدودها.
في اليمن، عاد الحوثيون سريعًا إلى واجهة الأحداث بإغراق سفن تجارية وضرب الممرات الحيوية في البحر الأحمر، في تصعيد حمل رسائل مزدوجة: أولها لطهران نفسها بأنها ما تزال تملك نفوذًا عملياتيًّا في المنطقة، وثانيها لواشنطن وتل أبيب بأن ذراع إيران البحرية لم تُبتر بعد، وفقًا لـ"سي إن إن".
وفي العراق، تصاعدت الهجمات بطائرات مسيّرة استهدفت منشآت نفطية حساسة، لا سيما في إقليم كردستان، وأشارت حكومة الإقليم إلى تورط فصائل مرتبطة بالحشد الشعبي المدعوم من إيران في ضرب بنى تحتية تُديرها شركات أمريكية.
هذا التحرك لا يبدو عشوائيًا، بل أقرب إلى استراتيجية منظمة تهدف إلى زعزعة الثقة بالوجود الغربي وتعطيل أي محاولة لبناء بدائل اقتصادية مستقلة عن بغداد.
*حزب الله بعد نصر الله.. إعادة التشكّل تحت النار*
حزب الله، الذي شكل طيلة عقود الذراع الأقوى لطهران في المشرق، يواجه اليوم أخطر تحولاته منذ تأسيسه، فمقتل أمينه العام حسن نصر الله، في غارة إسرائيلية العام الماضي، وخسارة الطريق الحيوي عبر سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، تركا الحزب في وضع وجودي حرج.
ومع ذلك، ثمة مؤشرات على أن التنظيم يستعد لإعادة بناء منظومته القتالية، خاصةً في الجنوب اللبناني، وسط أنباء عن تحريك خلايا وتجميع صواريخ.
وبحسب مصدر أمني إقليمي، فإن الحزب ما يزال يتلقى دعمًا ماليًا وعسكريًا من طهران، وإن كان ذلك يتم بشروط وظروف جديدة تفرضها التحديات السياسية في لبنان والرقابة الغربية المتزايدة.
*سوريا.. الممر الصعب*
كانت سوريا لسنوات الممرّ الآمن للسلاح الإيراني المتجه إلى حزب الله، غير أن التغير السياسي الدرامي في دمشق، بعد إطاحة الرئيس بشار الأسد، غيّر هذه المعادلة.
الحكومة الجديدة في سوريا، التي تتبنى نهجًا مناهضًا للنفوذ الإيراني، صادرت خلال العام الماضي شحنات صواريخ ومعدات قتالية كانت مخبأة في شاحنات نقل خضروات، في محاولة لإيصالها إلى لبنان.
لكن المثير أن هذه الشحنات –بحسب مصادر أمنية سورية– غالبًا ما تُجمع محليًا أو تُهرّب عبر الحدود العراقية، وهذا يُظهر أن إيران باتت تُجري تعديلات لوجستية على طريقة تسليح وكلائها، تجنبًا للكشف أو المصادرة.
*التحوّلات البحرية*
في البحر الأحمر، شكّل الهجوم على السفينة "ماجيك سيز" بدايةً لتصعيد بحري واضح، لم تشهده المنطقة منذ شهور، فالهجوم الذي خلّف قتلى ومفقودين كان رسالة مباشرة من الحوثيين بأن الهدنة لا تُلغي الخيار العسكري.
وبالعودة إلى تسلسل الأحداث، نجد أن سفينة إيرانية محمّلة بـ750 طنًّا من العتاد العسكري كانت في طريقها إلى الحوثيين حين اعترضتها قوات تابعة للحكومة اليمنية، مما يعزز فرضية أن طهران لم تُوقف الإمداد العسكري قط، حتى في أوج الحرب الأخيرة.
*ورقة ضغط في وجه ترامب*
في واشنطن، يُظهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تراجعًا عن الانخراط المباشر مع طهران. فبعد موجة التصعيد، فضّل البيت الأبيض التريّث، مشيرًا أن "الوقت ليس مناسبًا بعد" لأي محادثات.
ويقرأ محللون هذا الموقف بأنه منح إيران فرصة لإعادة ترتيب أوراقها على الأرض.
أما في طهران، فرفض علي لاريجاني، المستشار الأبرز للمرشد الأعلى، فكرة المفاوضات، مشددًا على أن "لا شيء يدعو للاستعجال".
ووفقًا لتقديرات أمنية غربية، فإن إيران تسعى لبناء بيئة تفاوضية جديدة، يكون لوكلائها فيها اليد العليا، وتظهر من خلالها أنها لم تُهزم، بل ما تزال قادرة على التأثير والتخريب متى شاءت.
*توزيع الخطر*
من جانبه، يرى د. محمد محسن، أستاذ العلاقات الدولية والمختص في الشأن الإيراني، أن ما نشهده اليوم من تصعيد من قِبل أذرع إيران في الإقليم ليس مجرد رد فعل تكتيكي، بل هو جزء من خطة أوسع لإعادة بناء "الهالة الردعية" التي اهتزت بعد الضربات القاسية التي تلقتها طهران في يونيو الماضي.
ويقول في حديثه لـ"العرب مباشر": الإيرانيون يدركون أن خسارتهم لا تُقاس فقط بما جرى داخل أراضيهم، بل في الصورة التي ظهرت بها طهران كعاجزة عن الرد المباشر، وهذا ما تحاول تعويضه عبر وكلائها.
ويشير د. محسن، أن النظام الإيراني يعتمد على منطق "توزيع الخطر"، بمعنى أن أي تهديد يُواجهه في الداخل يتم تصريفه عبر الجبهات الخارجية.
ويوضح، أن العودة المكثفة لعمليات الحوثيين، وهجمات العراق، ومحاولات تسليح حزب الله من جديد، هي بمثابة رسائل مدروسة موجّهة للخصوم قبل الحلفاء، مفادها أن إيران ما تزال تمسك بخيوط اللعبة، حتى وإن كانت متخفية خلف الستار.
ويختم بالقول: التصعيد لن يكون تصعيدًا شاملًا بالضرورة، بل مرنًا ومتعدد الأشكال، يحافظ على توازن القوة، لكنه في ذات الوقت يُبقي الجميع على حافة التوتر، وهي الحالة التي تتقنها طهران جيدًا منذ أربعة عقود.