بقّ الفراش وداء الكلب.. وجوه جديدة لأوبئة الإهمال في مناطق الحوثيين

بقّ الفراش وداء الكلب.. وجوه جديدة لأوبئة الإهمال في مناطق الحوثيين

بقّ الفراش وداء الكلب.. وجوه جديدة لأوبئة الإهمال في مناطق الحوثيين
ميليشيا الحوثي

في قلب المدن اليمنية التي أنهكتها الحرب والفقر، تتسلل أوبئة قديمة عادت للحياة كأشباح الماضي، لتنهش أجساد الأطفال وتقلق نوم الأسر، ففي صنعاء وذمار، حيث تتراجع الخدمات الصحية وتتآكل مؤسسات الدولة، يواجه السكان خطر داء الكلب الذي يحصد أرواح الصغار بصمت، إلى جانب غزو غير مسبوق لحشرة بقّ الفراش التي عادت بعد عقود من الغياب، ناشرة الرعب في المنازل والمساجد والمقاهي، وبينما تتكدس النفايات في الشوارع وتغيب اللقاحات والأمصال من المستشفيات، يجد اليمنيون أنفسهم أمام مشهد صحي قاتم يعكس حجم الانهيار في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، حيث يختلط الإهمال بالابتزاز، والمأساة بالصمت الرسمي، إنّها عودة مؤلمة لعصور الأوبئة، تضع حياة الناس على حافة الخطر وتكشف أن الحرب لا تقتل بالرصاص فقط، بل بالإهمال أيضًا.

مأساة متكررة

لم يعد داء الكلب في اليمن مجرد حادثة عرضية، بل أصبح عنوانًا جديدًا لمأساة متكررة تطال الأطفال قبل غيرهم. خلال الأسابيع الأخيرة، سُجلت خمس حالات وفاة على الأقل في صنعاء وذمار، معظمها لأطفال لم يتلقوا العلاج المناسب في الوقت المناسب بسبب انعدام المصل المضاد، أو ارتفاع ثمنه إلى مستويات تفوق قدرة العائلات المنهكة اقتصاديًا.

تروي مصادر طبية في صنعاء قصصًا تقشعرّ لها الأبدان، طفل توفي بعد أسابيع من خدش بسيط تسببت به قطة ضالة، وآخر لفظ أنفاسه بعد أن عضّه كلب مسعور في أحد أحياء ذمار، لأن المستشفيات لم تكن تملك المصل المضاد للفيروس القاتل.

وعندما حاولت عائلته شراؤه من السوق السوداء، فُرضت عليهم مبالغ تتجاوز 200 دولار ما يعادل رواتب عدة أشهر في بلد يعيش أكثر من 80% من سكانه تحت خط الفقر.

وفي مشهد يختصر فوضى النظام الصحي في مناطق الحوثيين، تحولت الإجراءات العلاجية إلى فرصة للابتزاز، فقد أكدت مصادر محلية أن بعض المستشفيات والمراكز الصحية تبيع الأمصال النادرة بأسعار خيالية، فيما تبرر الجهات التابعة للجماعة غيابها بـ"عدم توفر التمويل"، أما ذمار، التي شهدت خلال الأشهر الماضية تسجيل أكثر من 400 حالة عض شهريًا، فهي نموذج لمدينة منكوبة تتقاطع فيها الأوبئة مع الفساد.

ابتزاز الحوثي

لكن المأساة لا تقف عند حدود المستشفيات، فوفقًا مصادر محلية مطلعة في صنعاء، فالسكان الذين يحاولون حماية أنفسهم من الكلاب الضالة يواجهون ابتزازًا من نوع آخر، ففي صنعاء، يفرض مشرفو جماعة الحوثي مبالغ طائلة على الأحياء مقابل "تنظيفها" من الكلاب، تصل أحيانًا إلى ألف دولار، دون ضمان التنفيذ الفعلي، بل إن بعض الأحياء دفعت الأموال ولم ترَ أي فرق في الأعداد المتزايدة لتلك الحيوانات التي تهاجم الناس في الشوارع.

وحتى حين تتحرك الجماعة، فإن أسلوبها في المكافحة يثير الخوف أكثر مما يبعث على الطمأنينة؛ إذ تلجأ إلى استخدام السموم العشوائية، ما يؤدي إلى نفوق الكلاب في الأزقة والشوارع دون أي متابعة أو تنظيف، فتتحول الجثث المتحللة إلى مصدر جديد للعدوى والتلوث. 

ويشير سكان إلى أن بعض الماشية والطيور نفقت بعد تناولها أطعمة ملوثة بتلك السموم.

حشرة تعود من الماضي

وسط هذا المشهد الكارثي، لم يكد اليمنيون يلتقطون أنفاسهم من رعب "العضّات" حتى باغتهم عدو آخر من داخل الفراش، "البقّ" الحشرة التي ظنوا أنها طُويت مع صفحات الماضي، عادت إلى صنعاء بأعداد هائلة لتثير موجة من الهلع الشعبي.

في أحياء العاصمة، اضطر الناس إلى إحراق الأثاث أو التخلص منه في الشوارع بعد أن فشلت محاولاتهم في القضاء على الحشرة التي تختبئ في ثنايا الأسرة والملابس، توقفت مساجد عن استقبال المصلين، وأغلقت مقاهٍ أبوابها إلى حين السيطرة على الانتشار، فيما تغيب الجهات البيئية والصحية الحوثية عن المشهد كليًا.

ويربط كبار السن عودة هذه الحشرة بعهود الأئمة قبل ثورة الستينيات، عندما كانت الفقرات والجلود المتقرحة من لسعاتها رمزًا للفقر والعزلة، اليوم، يعيد الحوثيون في ذاكرة الناس ذلك الزمن بكل تفاصيله، تكدّس النفايات، غياب الرقابة الصحية، وانهيار خدمات النظافة العامة.

ويحذر أطباء يمنيون من أن انتشار بقّ الفراش لا يقتصر على الحكة أو الأرق، بل قد يسبب التهابات جلدية وعدوى بكتيرية، إلى جانب آثار نفسية مثل القلق والاكتئاب واضطرابات النوم، خصوصًا بين الأطفال والنساء.

ورغم أن معالجة هذه المشكلة لا تتطلب تقنيات متقدمة إذ يمكن السيطرة عليها عبر حملات تعقيم وتطهير منظمة إلا أن السلطات الحوثية لم تصدر حتى بيانًا توعويًا واحدًا. 


أما السكان فيعتمدون على مبيدات تجارية خطيرة قد تسبّب تسممًا تنفسيًا أو جلديًا، ما يضيف طبقة جديدة من المعاناة فوق أوجاعهم اليومية.

من داء الكلب إلى بقّ الفراش، تتجسد مأساة اليمنيين في غياب الحد الأدنى من الرعاية الصحية والنظافة العامة، فالحرب التي أحرقت البلاد لم تكتفِ بدمار البنية التحتية، بل سمحت بعودة أمراض كانت منسية منذ عقود.

وتستمر الجماعة الحوثية في جباية الأموال تحت عناوين "التحسين والنظافة"، تتسع رقعة الأوبئة كأنها عقاب صامت يذكّر الناس بأن الإهمال قد يكون أفتك من الحرب نفسها.