زيارة الشرع تعيد الحرارة إلى خطوط واشنطن– سوريا المقطوعة منذ 80 عامًا
زيارة الشرع تعيد الحرارة إلى خطوط واشنطن– سوريا المقطوعة منذ 80 عامًا
بعد أكثر من سبعة عقود من القطيعة السياسية، وطوفان من العداء والدمار والحصار، يفتح الرئيس السوري أحمد الشرع صفحة جديدة في تاريخ العلاقات بين دمشق وواشنطن، بزيارة وُصفت بأنها “الأكثر رمزية” منذ استقلال سوريا عام 1946، لم يكن الطريق إلى البيت الأبيض مفروشًا بالتصفيق الدبلوماسي، بل بشبكة معقدة من الملفات الموروثة عن الحرب السورية، والعقوبات، والعلاقات المتوترة مع إسرائيل، والتوازنات الإقليمية التي أعادت رسم خريطة الشرق الأوسط بعد سقوط نظام الأسد، زيارة الشرع إلى العاصمة الأميركية لا تُختزل في لقاء بروتوكولي مع الرئيس دونالد ترامب، بل تمثل اختبارًا جديًا لقدرة سوريا الجديدة على التفاوض من موقع دولة أنهكتها الحرب لكنها تطمح إلى أن تعود لاعبًا إقليميًا مؤثرًا، في لحظة دولية تشتبك فيها واشنطن وطهران وتعيد فيها تل أبيب ترتيب أمنها الحدودي مع الجار السوري.
زيارة استثنائية
تُعد زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن لحظة استثنائية في التاريخ السياسي الحديث لسوريا، ليس فقط لأنها الأولى من نوعها منذ نحو ثمانين عامًا، بل لأنها تأتي في ظل مرحلة انتقالية تعيد فيها دمشق ترميم دورها الدولي بعد حرب أهلية مدمرة امتدت لأربعة عشر عامًا.
وقد جاءت الزيارة بعد أيام قليلة من خطوة أميركية لافتة تمثلت في رفع اسم الشرع من قوائم الإرهاب، بالتزامن مع قرار مجلس الأمن رفع العقوبات المفروضة عليه، في إشارة واضحة إلى ضوء أخضر دولي لدمشق لاستعادة موقعها في النظام العالمي بعد غياب طويل.
ورغم أن الزيارة أُعلنت في إطار رسمي ضيق، فإن خلفياتها السياسية والاقتصادية أوسع بكثير، فمصادر دبلوماسية في واشنطن كشفت أن اللقاء بين الشرع والرئيس الأميركي دونالد ترامب يتجاوز الطابع البروتوكولي إلى بحث ملفات أمنية واقتصادية معقدة، على رأسها إعادة انخراط سوريا في التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش"، وتنسيق الجهود لضبط الحدود الشرقية ومنع عودة التنظيم إلى الواجهة.
المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم براك، أكد أن بلاده ترى في "سوريا ما بعد الأسد" شريكًا محتملًا في الحرب على الإرهاب، مشيرًا إلى أن واشنطن مستعدة لدعم مشاريع إعادة الإعمار مقابل ضمانات سياسية واضحة تتعلق بالعلاقات مع إسرائيل واستقرار الجنوب السوري.
قاعدة عسكرية وإعادة إعمار
في هذا السياق، تحدثت مصادر دبلوماسية عن خطة أميركية لإنشاء قاعدة عسكرية بالقرب من دمشق، لتكون مركزًا تنسيقيًا لمهام مكافحة الإرهاب وللإشراف على مشاريع تدريب مشتركة بين الجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تجري مفاوضات للاندماج الكامل ضمن المؤسسة العسكرية السورية. هذه الخطوة – إن تمت – قد تشكل سابقة في تاريخ العلاقات العسكرية بين البلدين، وتفتح الباب أمام ترتيبات أمنية جديدة في المشرق العربي.
أما اقتصاديًا، فدمشق تراهن على استقطاب التمويل الغربي والعربي لإعادة إعمار ما دمّرته الحرب، بعد أن قدر البنك الدولي كلفة إعادة البناء بأكثر من 216 مليار دولار.
ويُتوقع أن تشمل المباحثات مع إدارة ترامب سبل تسهيل الاستثمارات الأجنبية وتخفيف العقوبات الاقتصادية التي شلت الاقتصاد السوري خلال العقد الماضي.
وتقول مصادر اقتصادية: إن الوفد السوري المرافق للشرع يضم شخصيات مصرفية ورجال أعمال بارزين، مكلفين بطرح “خطة اقتصادية انتقالية” تهدف إلى إعادة إدماج الاقتصاد السوري في المنظومة العالمية.
على المستوى السياسي، تبدو واشنطن حريصة على اختبار نوايا دمشق فيما يتعلق بملف المفاوضات مع إسرائيل، ففي مايو الماضي، دعا ترامب نظيره السوري للانضمام إلى الاتفاقات الإبراهيمية التي رعتها الولايات المتحدة في المنطقة، في خطوة وُصفت بأنها “مغامرة جريئة” لإعادة صياغة المشهد العربي–الإسرائيلي.
الشرع بدوره أعلن في سبتمبر، أن حكومته منفتحة على "اتفاق أمني شامل" مع إسرائيل، يقوم على انسحابها من مناطق الجنوب السوري التي توغلت فيها بعد سقوط الأسد، مقابل وقف الغارات الجوية المتكررة واستئناف العلاقات الأمنية غير المباشرة.
اختبارًا مزدوجًا
ويؤكد مراقبون، أن هذه الملفات المتشابكة – الإرهاب، الإعمار، والتطبيع الأمني – تجعل من زيارة الشرع اختبارًا مزدوجًا، فهي تمتحن استعداد واشنطن لاحتضان شريك جديد من خارج معادلة الأسد–إيران، كما تختبر قدرة القيادة السورية على المناورة بين حلفائها التقليديين في طهران وموسكو وبين مغريات الانفتاح الغربي.
في هذا السياق، قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية تومي بيغوت: إن “الإجراءات الأخيرة تمثل اعترافًا بالتقدم الذي تظهره القيادة السورية الجديدة بعد نصف قرن من القمع في ظل نظام عائلة الأسد”، مضيفًا أن بلاده “تتابع عن كثب مؤشرات الإصلاح السياسي وحقوق الإنسان في دمشق”.
أما في الداخل السوري، فقد أثارت الزيارة جدلاً واسعًا بين مؤيد يرى فيها بداية عهد جديد يعيد سوريا إلى المسرح الدولي، ومعارض يحذر من "تنازلات سياسية مؤلمة" قد تفرضها الصفقة مع واشنطن.
وبين هذين الموقفين، يبدو أن الرئيس الشرع يسعى لتثبيت معادلة جديدة قوامها الواقعية السياسية والانفتاح الاقتصادي، في محاولة لإعادة بلاده إلى موقع الفاعل الإقليمي بعد سنوات من العزلة والدمار.

العرب مباشر
الكلمات