سقوط الفاشر يبدّل موازين الحرب في السودان
سقوط الفاشر يبدّل موازين الحرب في السودان
وسط الرمال الممتدة على أطراف دارفور، تلوح مدينة الفاشر كجرح مفتوح في الجسد السوداني المنهك بالحروب. هناك، تتقاطع الجغرافيا بالدم، والتاريخ بالحصار، بعدما أعلنت قوات التأسيس سيطرتها على آخر معاقل الجيش في المدينة، مختتمة فصلاً جديدًا من الصراع على واحدة من أكثر المدن رمزية في الإقليم.
لم تعد الفاشر مجرد نقطة على الخريطة، بل باتت عنوانًا لواحدة من أعقد الأزمات الإنسانية والعسكرية في السودان، في الأزقة القديمة تختلط رائحة البارود برماد البيوت المحترقة، بينما ينتظر عشرات الآلاف مصيرهم في مخيمات النزوح، يترقبون من بعيد شبح المجاعة وانهيار الخدمات، وبينما يلوذ الجيش بالصمت، تمضي الفاشر نحو مصير غامض، تتنازعها القوى المسلحة، وتطوقها أزمات الغذاء والدواء، فيما تبدو الإنسانية فيها ترفًا نادرًا لا يقل ندرة عن رغيف الخبز.
مدينة تحت الحصار.. وساعة الصفر في شمال دارفور
إعلان قوات التأسيس السيطرة على الفرقة السادسة للجيش السوداني في الفاشر لم يكن مجرد انتصار ميداني، بل نقطة تحوّل في معادلة الحرب المتمددة منذ أكثر من عام. فالفاشر، العاصمة التاريخية لإقليم دارفور، تمثل المفتاح العسكري والإنساني لشمال وغرب السودان، إذ تمر عبرها خطوط الإمداد، وقوافل المساعدات القادمة من ميناء بورتسودان إلى عمق الإقليم، سقوطها ـ أو بالأحرى، انتقال السيطرة عليها ـ يعني عمليًا إحكام الطوق على آخر مراكز الجيش في دارفور، وإعادة رسم خارطة النفوذ في الإقليم المترامي الأطراف.
قوات التأسيس قالت - في بيانها-: إنها “كبّدت العدو خسائر فادحة”، بينما اكتفى الجيش بالصمت، في وقت أكد فيه شهود عيان أن الاشتباكات كانت الأعنف منذ شهور، وأنها خلفت دمارًا واسعًا في المقر العسكري والأحياء المجاورة.
وتشير تقارير ميدانية إلى أن القوات الحكومية انسحبت من مواقعها داخل المدينة، متمركزة في أطرافها الشرقية والجنوبية، في محاولة لإعادة التموقع.
الفاشر.. قلب دارفور الذي يختنق بالحصار
تقع الفاشر على بعد نحو 800 كيلومتر غرب الخرطوم، وتُعد حلقة الوصل بين مدن الشمال السوداني وإقليم دارفور، يصفها بعض العسكريين بأنها “الرئة التي يتنفس منها الجيش”، فيما يعتبرها المراقبون “الدرع الاستراتيجي الأخير” قبل سقوط كامل دارفور في يد قوات التأسيس.
لكن الأهمية الجغرافية ليست وحدها ما يمنح المدينة هذه المكانة، فالفاشر تمثل أيضًا بوابة المساعدات الإنسانية إلى الإقليم، الذي يعيش واحدة من أسوأ الكوارث الغذائية في تاريخه الحديث، ومن هنا، فإن أي تغيير في السيطرة عليها ينعكس مباشرة على حياة مئات الآلاف من النازحين والمواطنين العالقين داخل المدينة.
ومع انقطاع الإمدادات وتدهور الوضع الأمني، تشهد المدينة أزمة إنسانية متصاعدة، فبحسب تقارير منظمات طبية، يتوفى يوميًا ما لا يقل عن ثلاثة أطفال بسبب سوء التغذية، بينما تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من نصف مليون شخص يعيشون في مخيمي زمزم ونيفاشا وحدهما، وسط نقص حاد في المياه والدواء والغذاء.
من الحياد إلى التحالفات الجديدة.. تصدّع القوة المشتركة
منذ اندلاع القتال في أبريل 2023، حاولت بعض الفصائل المسلحة في دارفور التزام الحياد، فشكّلت ما عُرف بـ"القوة المشتركة" لتأمين المدنيين داخل الفاشر، تفاديًا للاحتكاك بين الجيش وقوات التأسيس. لكن المشهد تبدّل سريعًا مع إعلان حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم دعمهما للجيش؛ ما أدى إلى تفكك التحالف المؤقت وانسحاب فصائل أخرى منه، لتتحول المدينة إلى ساحة مفتوحة تتنازعها القوى المسلحة بلا مركز ثابت.
وبينما تتبادل الأطراف الاتهامات، يظل المدنيون الخاسر الأكبر، فالمستشفيات خرجت عن الخدمة بنسبة تتجاوز 80%، بحسب منظمة "أطباء السودان"، فيما يشهد النظام الصحي انهيارًا شبه كامل، ومع غياب الأمن وندرة الغذاء، يلوّح شبح كارثة إنسانية وشيكة قد تتجاوز في حجمها ما شهده الإقليم خلال حرب دارفور الأولى قبل عقدين.
ذاكرة التاريخ.. بين قصر السلطان علي دينار ودخان الحرب
تحت أنقاض القتال، تقف الفاشر شاهدة على إرث حضاري ضارب في القدم، فهي عاصمة السلطان علي دينار، آخر سلاطين دارفور قبل ضم الإقليم إلى السودان عام 1916، وتضم قصره ومتحفه اللذين أدرجتهما اليونسكو ضمن قائمة التراث الإنساني عام 2023، تلك الرموز التاريخية، التي كانت بالأمس مصدر فخر لأهل دارفور، تحوّلت اليوم إلى أهداف عرضية في معارك لا تميّز بين حجر وبشر.
وتفيد تقارير محلية، بأن المتحف تعرّض للقصف خلال المعارك الأخيرة، وسط نفي قوات الدعم السريع اتهامات باستهداف المواقع المدنية، مؤكدة أنها تحارب “الجيش ومواقعه العسكرية فحسب”، لكن صور الأقمار الصناعية وشهادات السكان توحي بعكس ذلك؛ فالمعالم الأثرية والأسواق القديمة أصابها الدمار، والمدينة التي كانت يومًا مركزًا للتجارة والثقافة، باتت أشبه بمدينة أشباح.
الفاشر اليوم.. بين أطماع السلاح ونداء الإنسانية
بينما تحتدم المعارك على أطرافها، يعيش سكان الفاشر حالة من الرعب والترقب، فكل فصيل يسعى لفرض سيطرته بالقوة، في غياب أي أفق سياسي لحل الأزمة، وفيما تتحدث الأمم المتحدة عن ضرورة فتح ممرات إنسانية عاجلة، ما تزال خطوط الإمداد مقطوعة، ما يجعل أي تحرك لإغاثة المدنيين رهينًا بالتوازنات العسكرية لا الاعتبارات الإنسانية.
ورغم كل هذا، تبقى الفاشر رمزًا لصمود دارفور، بذاكرتها الغنية، وشعبها المتشبث بالحياة رغم الحصار. فهنا ما تزال أصوات الأذان تتردد من المساجد القديمة، وأطفال المخيمات يرسمون على الرمال أحلامًا مؤجلة لسلامٍ طال انتظاره.

العرب مباشر
الكلمات