غزة تتنفس الهدنة.. فرحة من تحت الركام وقلق من الغد المجهول

غزة تتنفس الهدنة.. فرحة من تحت الركام وقلق من الغد المجهول

غزة تتنفس الهدنة.. فرحة من تحت الركام وقلق من الغد المجهول
حرب غزة

بعد عامين من الحرب والقصف والحصار والنزوح، دوّى في شوارع غزة صوت مختلف هذه المرة، ليس هدير طائرات ولا صفارات إنذار ولا صرخات استغاثة، بل صيحات فرح متقطعة خرجت من بين الركام. 

مشاهد غير مألوفة عاشتها شوارع القطاع مع إعلان التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس، اتفاق وُصف بأنه الأكثر جدية منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، ويُعد أول خطوة سياسية ملموسة على طريق يبدو طويلًا ومعقّدًا نحو نهاية الصراع، فمن مخيمات النزوح في رفح إلى أنقاض الأبراج المدمرة في غزة وشمالها، خرج الناس إلى الشوارع يهتفون، يكبرون، يتعانقون، يبكون، يرفعون الأعلام، يطلقون الرصاص في الهواء فرحًا، كأنهم يستعيدون لحظة حياة اختُطفت منهم قسرًا.

 كانت الاحتفالات حذرة، فالقلوب تخشى الخيبة بعد تجارب هدَن انهارت سريعًا، لكن مجرد سماع كلمة "وقف إطلاق النار" كان كافيًا لبعث شعور مؤقت بالأمان، أو بالأحرى هدنة مع الخوف.

الفرح الممزق بين الركام


لم تنتظر غزة إعلانًا رسميًا أو بيانًا حكوميًا للاحتفال، فجر الخميس، انتشرت الأنباء بسرعة عبر الهواتف الذكية وصفحات التواصل وبيانات الفصائل، ليخرج المئات من الشبان إلى الشوارع هاتفين "الله أكبر" و"خلصت الحرب".

السعادة بدت مترددة وكأنها تخشى أن تكون زائفة، لكن السكان شعروا بحاجة غريزية للخروج إلى الهواء الطلق بعد شهور من الاختباء في الخيام ومراكز النزوح.

يقول الشاب محمد أبو هاشم، (27 عامًا): "مش مصدق، حسّيت فجأة إنه في حياة بعد كل هالموت، نزلنا على الشارع لأننا مش قادرين نضل محبوسين، أول مرة من سنتين نحس إنه في لحظة ممكن نعيشها بدون خوف".

وعلى مقربة منه، بكت أم فلسطينية وهي تعانق أبناءها الأربعة، مذكرةً بأن الفرحة هنا ليست كاملة: "فرحانين بالهدنة.. بس قلوبنا مع اللي فقدناهم".

بين وقف النار واستمرار النزوح


ورغم إعلان الاتفاق، فإن الطريق أمام سكان غزة ما يزال طويلًا وشاقًا. فمعظم سكان القطاع الذي كان يضم أكثر من 2.3 مليون شخص أصبحوا اليوم بلا منازل. أكثر من نصفهم نزحوا إلى مخيمات مكتظة في جنوب القطاع، فيما ما تزال مناطق كثيرة غير صالحة للعودة.

قالت صفاء محمد (59 عامًا)، وهي أم لستة أبناء ونازحة من شمال غزة، "بيتنا اتدمر، حتى لو وقفوا الحرب، وين نرجع؟ على الخراب؟ ما ضل شي، وتضيف بحسرة: بدنا نعيش، بس بدنا أمان، وقف إطلاق النار مش نهاية الحرب، بس يمكن يكون بداية أمل".

منظمات إنسانية حذرت من أن العودة ستكون بطيئة وخطيرة، بسبب انتشار الذخائر غير المنفجرة وغياب الخدمات الأساسية، الكهرباء شبه منقطعة، وشبكات المياه والصرف مدمرة، والمستشفيات تعمل بالكاد.

الاتفاق: خطوة أولى أم هدنة مؤقتة؟


الاتفاق الذي تم الإعلان عنه وُصف بأنه تنفيذ للمرحلة الأولى من خطة طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإعادة الاستقرار في غزة، تتضمن هذه المرحلة وقفًا لإطلاق النار وتبادل أسرى: إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين مقابل الإفراج عن معتقلين فلسطينيين.

لكن رغم الاحتفالات، يظل السؤال الأبرز: هل هذا وقفٌ دائم للحرب؟ أم مجرد هدنة مؤقتة تستعد خلالها الأطراف لجولة جديدة من الصراع؟

الجانب الإسرائيلي تحدث عن أن الاتفاق مشروط، وأن قواته ستواصل التمركز في "مناطق أمنية" داخل غزة لفترة انتقالية. أما حركة حماس فاعتبرت الاتفاق "خطوة على طريق إنهاء الاحتلال ورفع الحصار".

الدور الإقليمي: مصر شريك الوساطة.. وقطر حاضرة

لم يكن الاتفاق الذي أعلن عن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى ليخرج إلى النور دون جهود دبلوماسية إقليمية مكثفة. لعبت مصر الدور الأكبر في قيادة المحادثات غير المباشرة بين إسرائيل وحركة حماس في القاهرة، حيث حرصت على خلق قناة اتصال آمنة للطرفين وضمان استمرار التفاوض دون انقطاع.

وأكدت مصادر دبلوماسية، أن القاهرة مارست ضغوطًا قوية على الجانب الإسرائيلي للحصول على التزام رسمي بوقف العمليات العسكرية، والسماح بدخول مساعدات إنسانية عاجلة إلى المناطق الأكثر تضررًا في غزة، بما في ذلك مواد الإغاثة الأساسية والأدوية والمستلزمات الطبية.

في المقابل، لعبت قطر دورًا بارزًا في الجانب المالي والإنساني من الاتفاق، من خلال تقديم تمويل جزئي لإعادة الإعمار ودعم المساعدات الغذائية، بالإضافة إلى تسهيل عمليات الإجلاء والنقل الآمن للمدنيين المحتاجين للرعاية الطبية.

أما الولايات المتحدة، فقد حافظت على وجودها الضاغط من خلال متابعة التفاوض عن قرب، بهدف ضمان استمرار إسرائيل في الالتزام بمسار الاتفاق ومنع أي انسحاب قد يؤدي إلى انهيار الوساطة.

 كما أشارت تقارير دبلوماسية، أن واشنطن كانت حذرة من احتمال تدخل أطراف إقليمية أخرى، مثل إيران وحزب الله، في حال فشل الاتفاق، ما قد يُعيد الصراع إلى دائرة أوسع وأكثر تعقيدًا على الصعيد الإقليمي.

ثمن الحرب.. وأرقام الفاجعة


وفق وزارة الصحة في غزة، تجاوز عدد القتلى الفلسطينيين 67 ألف شخص منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، بينهم آلاف النساء والأطفال الذين قضوا تحت أنقاض المنازل المدمرة أو جراء القصف المباشر على المناطق السكنية. 

وقد أسفر النزاع عن دمار واسع للبنى التحتية، شمل آلاف المنازل السكنية، ومئات المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية، إضافة إلى شبكات المياه والكهرباء، ما ترك أحياء كاملة بلا خدمات أساسية، وخلق أزمة إنسانية مستمرة لملايين النازحين داخل القطاع وخارجه.

وتشير تقديرات منظمات الإغاثة، أن أكثر من نصف سكان غزة أصبحوا بلا مأوى ثابت، يعيشون في مخيمات مكتظة أو خيام مؤقتة وسط ظروف معيشية صعبة.

هذه الأرقام تلقي بظل ثقيل على أي حديث عن "نصر" أو "هزيمة". فالجميع هنا دفع ثمنًا باهظًا، والبعض فقد كل شيء تقريبًا.

مستقبل غزة: ما بعد الحرب


رغم دخول الهدنة حيز التنفيذ، فإن مستقبل غزة يظل معلقًا بين سيناريوهين:


الأول، هدنة طويلة قد تقود إلى ترتيبات سياسية وإعادة إعمار بتمويل عربي ودولي.


الثاني، عودة التصعيد إذا فشل الطرفان في تنفيذ التزاماتهما، خاصة مع استمرار الوجود العسكري الإسرائيلي في بعض المناطق.

ويبقى الناس في غزة لا يشغلهم الحديث السياسي بقدر ما يشغلهم سؤال واحد: "متى نعود إلى بيوتنا؟"، وحتى الذين لا بيت لهم بعد اليوم يريدون فقط أن يعيشوا بسلام.