الجوع أشد فتكًا من الرصاص.. كوارث صامتة تحصد أرواح المدنيين في السودان

الجوع أشد فتكًا من الرصاص.. كوارث صامتة تحصد أرواح المدنيين في السودان

الجوع أشد فتكًا من الرصاص.. كوارث صامتة تحصد أرواح المدنيين في السودان
الحرب السودانية

بينما تنشغل المدافع في سماء السودان وأرضه بإطلاق نيرانها، يعيش ملايين المدنيين معركة من نوع آخر، أشد قسوة وأطول أمدًا، فالحرب لم تعد وحدها مصدر الموت، بل صار الجوع والمرض والبيئة المنهكة شركاء خفيين في إبادة بطيئة تطال الفقراء والنازحين والأطفال قبل غيرهم، في مخيمات النزوح، وفي المدن التي تحولت إلى خرائب، تكشف الحكايات اليومية عن مشهد إنساني مروّع، أطفال لا يقوون على الوقوف من شدة الهزال، أمهات يقاومن العجز بدموع لا تُطعم صغارهن، وأطباء يواجهون الموت بأدوات طبية شحيحة. 

خلف هذه الصور تختفي أرقام صادمة، ملايين يعانون سوء التغذية، وآلاف يواجهون أمراضًا مستوطنة دون علاج، ورغم أن الحرب العسكرية قد تنتهي ذات يوم، إلا أن "الحرب الأخرى" – حرب الجوع والوباء وانهيار البيئة – تبدو أكثر خطورة، لأنها لا تهدد حاضر السودان فقط، بل مستقبله كله.

جوع يفتك بالأطفال


لم يعد السودانيون ضحايا الصراع المسلح وحده، بل صاروا أسرى سلسلة من الأزمات المركّبة التي تتداخل فيها تداعيات الحرب مع انهيار البنى التحتية وغياب الرعاية الصحية، فبينما يسيطر الدخان على المشهد العسكري، تكشف تقارير المنظمات الدولية، أن المعارك لم تعد سوى جزء من المأساة، وأن الجوع والمرض باتا القاتلين الأكبر في حياة ملايين المدنيين.

بحسب برنامج الغذاء العالمي، أكثر من 3 ملايين طفل سوداني يواجهون سوء تغذية حاد، فيما يواجه مئات الآلاف خطر الموت الوشيك إن لم تصل المساعدات العاجلة. وفي معسكرات دارفور وكردفان، تتجلى المأساة في صور مألوفة، أمهات يجهدن لتأمين كسرة خبز واحدة، وأطفال أجسادهم أشبه بظلال بشرية، يقول نازحون من دارفور لـ"فرانس برس": إن أبناءهم أصبحوا غير قادرين على السير، فالحرب سرقت بيوتهم، ولكن الجوع يقتلهم كل يوم.

الأطباء بدورهم يصفون الوضع بوباء يهدد جيلًا كاملًا، أحد الأطباء العاملين في مناطق النزاع يروي أنهم يستقبلون أطفالًا بأوزان أقل من نصف المعدل الطبيعي، بعضهم يعاني العمى بسبب نقص الفيتامينات، فيما يموت آخرون قبل أن تصلهم يد المساعدة.

عودة محفوفة بالموت


قصص "النزوح العكسي" تكشف وجهًا آخر للأزمة، بعض العائلات عادت إلى منازلها جنوب الخرطوم ضمن برامج "العودة الطوعية"، لكنها فوجئت بخراب يفوق قدرتها على الاحتمال: منازل منهوبة، أكوام نفايات، ومستنقعات مياه راكدة تحولت إلى بؤر للأمراض. 

أحد العائدين يروي: "أُصيب معظمنا بحمى الضنك، ولم نجد سوى البنادول في العيادات، بينما يحتاج كثيرون لمحاليل وريدية نادرة وغالية الثمن".

الأمراض الوبائية صارت واقعًا يوميًا، الملاريا، الحمى النزفية، الكوليرا. وكلها تنتشر في بيئة غابت عنها أبسط معايير الصحة العامة، لتتحول العودة إلى "مصيدة موت" جديدة.

منظمة الصحة العالمية أعلنت تسجيل أكثر من 11 ألف إصابة بالكوليرا في 10 ولايات سودانية خلال أغسطس وحده. وفي مدينة الرهد بشمال كردفان، يعالج الأطباء عشرات المرضى يوميًا بلا إمكانات تُذكر. "أجسادهم المنهكة بسوء التغذية لا تقاوم أبسط الأمراض"، يقول طبيب من أبناء المنطقة.

لكن الأمر لا يتوقف عند الأوبئة، فالبيئة ذاتها باتت سلاحًا صامتًا يفتك بالناس، الحرب دمّرت مساحات زراعية واسعة في الجزيرة والخرطوم، ولوّثت مصادر المياه، وحوّلت المدن إلى مكبّات للنفايات، هذا الخراب البيئي سيظل حاضرًا حتى لو توقفت المعارك، لأن أثره طويل الأمد، يجعل الأمراض رفيقًا للسكان لأجيال.

أسلحة كيماوية وتهديد للأجيال


التقارير الدولية لم تستبعد أن تكون الحرب السودانية قد شهدت استخدام أسلحة كيماوية، مثل غاز الكلور، رغم نفي الجيش لذلك.

خطورة هذه الأسلحة لا تكمن في قتل المدنيين فورًا فحسب، بل في آثارها الممتدة على التربة والمياه، وما قد تسببه من أمراض مزمنة وتشوهات خلقية تهدد مستقبل الأطفال. العقوبات الأميركية التي فُرضت على الجيش في يونيو الماضي عكست تصاعد المخاوف من اتساع دائرة الانتهاكات.

المراقبون يحذرون من أن عدد ضحايا الجوع والمرض قد يتجاوز قتلى الرصاص والمدافع. "هؤلاء الضحايا الصامتون لا نراهم في الأخبار، لكنهم الوجه الأشد قسوة للحرب"، يقول أحدهم: فبينما تحظى المعارك العسكرية بالتغطية الإعلامية، يموت آلاف بصمت داخل المخيمات والقرى البعيدة.

حتى إذا توقفت الحرب العسكرية غدًا، سيبقى أمام السودانيين معركة أشد تعقيدًا، إعادة بناء النظام الصحي، إنعاش الزراعة، تنظيف البيئة من التلوث والمخلفات، وتأهيل بنية الدولة المنهارة، دون ذلك، ستظل الأمراض والأوبئة والجوع تفتك بالملايين، لتصبح الحرب مجرد فصل أول في مأساة ممتدة.

 السودان، رغم ما يملكه من أرض خصبة وموارد طبيعية، يقف اليوم على حافة كارثة وجودية قد تحدد مصيره لعقود قادمة.

النزيف الصامت


من جانبه، يرى الكاتب والمحلل السياسي السوداني أنور سليمان، أن المأساة الإنسانية التي يعيشها السودانيون اليوم ليست مجرد نتيجة عرضية للحرب، بل هي انعكاس مباشر لإطالة أمدها وتعثر أي مسار سياسي جاد نحو التسوية، ويشير أن الحروب الطويلة لا تدمر فقط البنية التحتية للدول، بل تُفكك نسيج المجتمعات، وتحوّل الأزمات الإنسانية إلى أداة ضغط سياسية؛ ما يجعل المدنيين هم الخاسر الأكبر في معادلة الصراع.

ويؤكد سليمان في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن ما يزيد خطورة الوضع في السودان هو توظيف الشائعات وتبادل الاتهامات بين أطراف الصراع حول مسؤولية انهيار الخدمات وتفشي الأمراض، بل وإلقاء اللوم على دول الجوار وكأنها أصل الكارثة. مثل هذا الخطاب – بحسب رأيه – لا يخدم سوى إطالة أمد المعاناة، لأنه يبدد المسؤولية الحقيقية، ويمنح المتحاربين فرصة للهروب من تبعات أفعالهم.

ويحذر سليمان من أن استمرار الحرب بهذا الشكل، مع تنامي الأزمات الصحية والبيئية، سيدفع السودان إلى مرحلة انهيار يصعب تداركها، حيث تتحول الدولة تدريجيًا إلى ساحة مفتوحة للأوبئة والمجاعات.

ويرى، أن الحل الوحيد يكمن في وقف فوري لإطلاق النار، وإطلاق عملية سياسية شاملة تضع معاناة المدنيين في قلب أولوياتها، وإلا فإن النزيف الصامت للجوع والمرض سيبتلع مستقبل البلاد.