من البيت الأبيض إلى الكرملين.. دبلوماسية ترامب المكوكية تبحث عن صفقة كبرى
من البيت الأبيض إلى الكرملين.. دبلوماسية ترامب المكوكية تبحث عن صفقة كبرى

بين دهاليز البيت الأبيض، احتضن الرئيس الأميركي دونالد ترمب قمة غير مسبوقة جمعت الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وعدداً من القادة الأوروبيين، في وقت يشهد العالم تصاعد القلق من استمرار الحرب الروسية – الأوكرانية بلا أفق.
اللقاء بدا وديًا أكثر منه تفاوضيًا، لكنه أطلق سلسلة من الإشارات التي تحمل وعودًا بسلام محتمل، وإن بقيت محاطة بالغموض والتناقضات. فقد سعى ترمب إلى تقديم نفسه وسيطًا قادرًا على مخاطبة الطرفين: من جهة طمأنة زيلينسكي بدعم الغرب وضماناته، ومن جهة أخرى فتح قنوات مباشرة مع فلاديمير بوتين على أمل ترتيب لقاء يجمع الخصمين وجهًا لوجه.
ورغم أن الاجتماع لم يفضِ إلى قرارات حاسمة، فإنه رسم خطوطًا أولية لمسار جديد، تتقاطع فيه حسابات الأسلحة والضمانات الأمنية مع رهانات سياسية تخص أوروبا والولايات المتحدة على السواء. ومع ذلك، تبقى الحقيقة الجوهرية أن الحرب لم تنته بعد، وأن مائدة التفاوض ما تزال تبحث عن مقاعد ثابتة.
وحدة ظاهرية وتباينات عميقة
القمة الأخيرة أظهرت مشهدًا معقدًا: على السطح، بدا وكأن قادة الولايات المتحدة وأوروبا يتحدثون بصوت واحد لدعم أوكرانيا، لكن خلف العبارات الدبلوماسية برزت خلافات لا تخطئها العين.
فبينما شدّد المستشار الألماني فريدريش ميرتس على ضرورة وقف إطلاق نار فوري قبل أي حوار، رفض ترمب هذا الطرح باعتباره يمنح موسكو فرصة لإعادة التموضع.
أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فعبّر عن تشككه في نوايا بوتين، مذكّرًا بأن موسكو لم تُبدِ حتى الآن أي مؤشرات ملموسة على الاستعداد للتسوية.
ورغم هذه الفجوات، فإن الاجتماع مرّ من دون توترات حادة كتلك التي طبعت زيارة زيلينسكي السابقة إلى واشنطن. بل إن الأطراف اتفقوا، ولو مبدئيًا، على السعي لترتيب لقاء مباشر بين زيلينسكي وبوتين، مع ترك التفاصيل العالقة —كالضمانات الأمنية وتنازلات الأراضي— إلى جولات لاحقة.
الضمانات الأمنية: وعود بلا تفاصيل
كان الملف الأكثر إثارة للنقاش هو مستقبل الضمانات الأمنية لأوكرانيا. ترمب، الذي حرص على تقديم صورة "الرجل المنخرط"، تحدث عن ترتيبات يجري بحثها مع عدة عواصم أوروبية بالتنسيق مع واشنطن، لكنه امتنع عن توضيح طبيعتها أو إلزاميتها. وعندما سُئل صراحة عن احتمال إرسال قوات أميركية ضمن مهمة لحفظ السلام، اكتفى بتعليق غامض: "سوف نساعدهم... وسنكون منخرطين".
القادة الأوروبيون، من جهتهم، طالبوا بصيغة أقرب إلى المادة الخامسة في ميثاق "الناتو"، أي تعهد جماعي بالدفاع عن أوكرانيا في حال تعرضها لأي هجوم جديد. لكن رد ترمب لم يرقَ إلى هذا المستوى، إذ اكتفى بالقول إن بلاده ستوفر "حماية جيدة جداً".
أما زيلينسكي نفسه، فقد لخّص مطلبه بكلمتين: "كل شيء"، في إشارة إلى رغبته بالحصول على أقصى ما يمكن من التزامات عسكرية وسياسية.
دبلوماسية ترمب المكوكية مع بوتين
الحدث الأبرز خلال القمة كان اتصال ترمب المباشر بفلاديمير بوتين، بينما كان القادة الأوروبيون وزيلينسكي مجتمعين في القاعة الشرقية للبيت الأبيض. تلك الخطوة عززت صورة ترمب كوسيط يمارس "دبلوماسية مكوكية"، لكنها في الوقت ذاته أثارت تساؤلات حول حدود الثقة بينه وبين الحلفاء.
بحسب الروايات، عاد ترمب إلى القاعة ليطلع زيلينسكي وماكرون وميرتس على فحوى المكالمة، مشيراً إلى أنه اقترح لقاءً ثلاثيًا يجمعه ببوتين وزيلينسكي. ورغم أن موسكو تحدثت عن "محادثة صريحة وبنّاءة"، إلا أن لغة الدبلوماسية الروسية تحمل دوماً معنى مضمراً: الخلافات ما تزال قائمة.
موسكو أوضحت أنها مستعدة لإرسال مفاوضين رفيعي المستوى للتباحث مع كييف، لكنها لم تَعِد بمشاركة بوتين شخصيًا، خصوصًا أن الكرملين ما يزال يشكك في "شرعية" زيلينسكي، وهي إشارة تكشف عمق الهوة السياسية بين الطرفين.
صفقة سلاح ضخمة قيد التفاوض
بعيدًا عن الخطاب السياسي، حمل الاجتماع بُعدًا عمليًا يتعلق بتوازن القوى على الأرض. زيلينسكي أعلن صراحة أن بلاده تخطط لشراء أسلحة أميركية بقيمة تصل إلى 90 مليار دولار، تشمل أنظمة دفاع جوي من طراز "باتريوت"، إضافة إلى طائرات مسيّرة تنتجها أوكرانيا وتشتريها واشنطن.
هذه الصفقة، وإن كانت ما تزال في طور النقاش، تعكس إدراك كييف أن أي اتفاق سلام محتمل لن يكون سوى هدنة هشة ما لم تتعزز قدراتها الدفاعية.
أما ترمب، فرأى في هذه الصيغة مخرجًا وسطًا: بدلاً من تقديم مساعدات مالية مباشرة لأوكرانيا، يمكنه أن يبرر أمام جمهوره الداخلي بيع السلاح كصفقة اقتصادية تعود بالفائدة على الصناعة الأميركية.
ضبابية أكثر من وضوح
من جانبه. يقول طارق فهمي أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ، إن الاجتماع الذي استضافه البيت الأبيض يكشف عن تحولات دقيقة في مسار الأزمة الأوكرانية، لكنه لا يرقى بعد إلى كونه منعطفًا حاسمًا.
ويوضح فهمي في حديثه للعرب مباشر، أن ترمب يحاول استثمار خبرته في "دبلوماسية الصفقات" لإقناع الأطراف المتنازعة بجلوس مباشر، إلا أن العقبات الجوهرية ما تزال ماثلة، سواء في ما يخص موقف موسكو من شرعية زيلينسكي، أو في حجم التنازلات التي يمكن لكييف تقديمها دون خسارة الداخل الأوكراني.
ويشير أن ملف الضمانات الأمنية هو الأكثر حساسية، لأن أي التزام أميركي مبالغ فيه قد يثير مخاوف داخلية لدى الناخب الأميركي، بينما تسعى أوروبا للحصول على غطاء واضح من واشنطن قبل الانخراط في ترتيبات جديدة.
أما عن صفقة السلاح المقترحة، فيرى فهمي أنها تعكس إدراك زيلينسكي أن الحرب قد تطول، وأن أي سلام محتمل سيكون هشاً من دون تعزيز القدرات الدفاعية الأوكرانية.
ويختم بالقول: إن الاجتماع "قدّم رسالة مزدوجة": من ناحية، هناك جدية في فتح قنوات تفاوضية جديدة، ومن ناحية أخرى، ثمة إقرار ضمني بأن الطريق إلى تسوية شاملة ما يزال معقدًا وطويلاً، وأن أي تقدم مرهون بإرادة موسكو أكثر مما هو بيد الغرب.