واشنطن تصنع خصمها بيديها.. كيف تحولت إيران إلى بوابة النفوذ الصيني في الشرق الأوسط؟
واشنطن تصنع خصمها بيديها.. كيف تحولت إيران إلى بوابة النفوذ الصيني في الشرق الأوسط؟
تشير التطورات الأخيرة إلى أن سياسة العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران لم تعد مجرد وسيلة لخنق الاقتصاد الإيراني أو إجبار طهران على تعديل سلوكها، بل تحولت إلى أداة استراتيجية غير مقصودة لإعادة رسم موازين القوى العالمية على نحو يضر بالمصالح الأمريكية ذاتها.
وأكدت مجلة "مودرن بوليسي" الأمريكية، أنه بدلاً من إضعاف إيران، ساهمت هذه السياسة في تعزيز تحالفها مع الصين، لتصبح طهران تدريجيًا بوابة النفوذ الصيني إلى الشرق الأوسط.
العقوبات الأمريكية
على مدى العقود الأربعة الماضية، فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها واحدًا من أشد أنظمة العقوبات قسوة على إيران، شمل تجميد الأصول، وحظر التعاون الصناعي والعسكري، ومنع طهران من الوصول إلى النظام المالي العالمي، إضافة إلى خنق صادراتها النفطية. الهدف المعلن كان تقويض القدرات الأمنية والاقتصادية الإيرانية، ودفعها إلى الانصياع للمنظومة الغربية.
لكن الواقع أثبت أن هذا النهج لم يحقق النتائج المرجوة. فبدلاً من تقليص تفاعل إيران الدولي، دفعها إلى بناء شبكة تعاون اقتصادي وطاقة متينة مع الصين، ما جعلها جزءاً من محور اقتصادي وسياسي بديل للغرب.
الصين المستفيد الأكبر من العقوبات
وفق تقارير الكونغرس الأمريكي، فإن ما يقرب من 100% من صادرات النفط الإيرانية عام 2024 كانت تتجه إلى الصين، في علاقة غير متكافئة تمنح بكين نفوذًا استراتيجيًا واسعًا مقابل حصولها على طاقة رخيصة.
الصين لم تكتفِ بشراء النفط بأسعار منخفضة، بل عملت على إعادة تشكيل البنية التحتية الإيرانية بما يتناسب مع نموذجها الاستثماري، وأنشأت شبكات مالية بديلة تتجاوز هيمنة الدولار.
دراسات متعددة أكدت، أن بكين أصبحت الراعي الأساسي لتقنيات التحايل على العقوبات، في عملية وصفها مركز "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات" بأنها "تسريع خارق" لقدرات إيران على الالتفاف على القيود الغربية.
نتائج عكسية للعقوبات.. اقتصاد موازٍ يقوده الشرق
رغم العقوبات الإضافية التي فرضتها واشنطن على المصافي الصينية التي تكرر النفط الإيراني، إلا أن النتيجة جاءت عكسية.
تحقيقات وكالة رويترز كشفت، أن هذه الإجراءات أدت إلى ظهور شبكات معقدة من الشركات الوسيطة والواجهات التجارية، تعمل على نقل النفط الإيراني بشكل غير مباشر وتحصين السوق السوداء للطاقة.
بهذا الشكل، أصبحت إيران أكثر ارتباطًا بالاقتصاد الشرقي، وأقل حاجة للنظام المالي الغربي، وهو ما يعمّق تبعيتها للصين ويقوّي موقع الأخيرة في معادلة الطاقة العالمية.
إيران كجسر استراتيجي لبكين في الشرق الأوسط
يرى محللون، أن طهران باتت تمثل "حصان طروادة" صينيًا في الشرق الأوسط، ليس بمعنى الأداة التخريبية، بل كجسر سياسي واقتصادي وأمني يمكّن بكين من التمدد في الإقليم.
هذا التحول لم يكن نتيجة قرار إيراني منفرد، بل ثمرة طبيعية لضغط غربي متواصل أجبر طهران على البحث عن شركاء بديلين.
النتيجة أن العلاقات الإيرانية الصينية أصبحت اليوم عميقة ومتشعبة إلى درجة يصعب فك ارتباطها، الأمر الذي يجعل أي عودة للنفوذ الأمريكي في المنطقة أكثر تعقيدًا.
غياب الحوار الدبلوماسي يفتح الباب أمام الصين وروسيا
التعثر المستمر في المفاوضات بين طهران وواشنطن عمّق هذا الاتجاه. فإيران ترفض العودة إلى طاولة المباحثات دون ضمانات قاطعة، بينما لا تستطيع الولايات المتحدة تقديم مسار موثوق للحوار.
هذا الفراغ استغلته الصين – ومعها روسيا بدرجة أقل – لتقديم نفسيهما كبديل استراتيجي لإيران، عبر اتفاقيات استثمارية طويلة الأمد وتعاون أمني متنامٍ.
وفي المقابل، أدى هذا التقارب إلى تراجع التواصل الإيراني مع أوروبا، وتعزيز انخراطها في منظومات اقتصادية وأمنية شرقية مثل منظمة شنغهاي للتعاون.
انعكاسات داخلية.. صعود التيار الشرقي وتراجع البراغماتيين
التحولات الخارجية انعكست على الداخل الإيراني، حيث تعزز نفوذ التيارات السياسية المؤيدة للتوجه شرقاً، في حين تم تهميش الأصوات الداعية للتقارب مع الغرب.
بات شعار "التوجه نحو الشرق" مكوّنًا رئيسيًا للسياسة الخارجية الإيرانية، ما عمّق الفجوة بين إيران والغرب، وأضعف قدرة الإصلاحيين على طرح بدائل دبلوماسية.
بهذا، تحولت العقوبات إلى عامل سياسي داخلي يعيد تشكيل ميزان القوى في طهران لصالح التيارات المحافظة والمتشددة.
ورغم وضوح النتائج العكسية، ما تزال دوائر صنع القرار في واشنطن متمسكة بسياسة "العقوبات كخيار أول وأخير"، غير مدركة للتكلفة الاستراتيجية الباهظة التي تتحملها الولايات المتحدة على المدى الطويل.
فكلما تعمقت تبعية إيران للصين، تضاءل نفوذ واشنطن وقدرتها على التأثير في القرارات الإيرانية.
هذا ما يسميه الخبراء "التنازل عن الملعب"، أي فقدان السيطرة على منطقة استراتيجية لصالح قوى منافسة، واستحالة استعادتها مستقبلاً دون كلفة هائلة.

العرب مباشر
الكلمات