المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية في فرنسا.. حصان طروادة لجماعة الإخوان في أوروبا
المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية في فرنسا أصبح حصان طروادة جماعة الإخوان في أوروبا، يصنع الأئمة والدعاة ويؤثر على الهوية الدينية والثقافية للمسلمين الأوروبيين.

في قلب الريف الفرنسي الهادئ، بمنطقة "نييفر"، قام صرح معماري لافت كان في الماضي مدرسة داخلية للأطفال، ليتحول في عام 1992 إلى ما سيُعرف لاحقًا بـ"المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية" (IESH)، لم يكن مجرد معهد لتعليم اللغة العربية والعلوم الإسلامية، بل كان مشروعًا طموحًا ورأس حربة في استراتيجية جماعة الإخوان المسلمين لترسيخ نفوذها في القارة الأوروبية، تأسس المعهد على يد شخصيات بارزة في التنظيم الدولي، وبتمويل سخي من مؤسسات قطرية، ليقدم نفسه كواجهة أكاديمية محترمة تهدف إلى سد الفجوة في تكوين الأئمة والدعاة لمسلمي أوروبا، لكن خلف هذه الصورة اللامعة، كان المعهد يعمل كـ"مصنع أيديولوجي" دقيق، مهمته ليست فقط تعليم الدين، بل صياغة عقول أجيال جديدة من المسلمين الأوروبيين وفقًا لرؤية الإخوان السياسية، لقد كان "حصان طروادة" الذي سعى من خلاله التنظيم إلى التغلغل في النسيج الاجتماعي الأوروبي، ليس بالقوة، بل بـ"القوة الناعمة" المتمثلة في التعليم والسيطرة الفكرية، بهدف خلق "إسلام أوروبي" يخدم أجندته العالمية، وهو ما أدركته السلطات الفرنسية مؤخرًا وقررت وضع حد له.
نشأة مدروسة
لم تكن ولادة المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية صدفة، بل كانت خطوة محسوبة بدقة ضمن استراتيجية طويلة الأمد للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، فمع تزايد أعداد الجاليات المسلمة في أوروبا خلال الثمانينيات والتسعينيات، أدركت قيادات الجماعة وجود "فراغ روحي" وفرصة تاريخية.
كانت المساجد تفتقر إلى أئمة مؤهلين يتحدثون لغات أوروبية ويفهمون سياق المجتمعات الجديدة، مما خلق طلبًا كبيرًا على مرجعية دينية منظمة، من هنا، جاءت فكرة تأسيس مؤسسة أكاديمية تكون بمثابة "الأزهر" الخاص بالتنظيم في أوروبا.
تم اختيار فرنسا بعناية لتكون مقرًا للمشروع، نظرًا لوجود أكبر جالية مسلمة في القارة، ولطبيعة قوانينها العلمانية التي كانت تسمح بإنشاء الجمعيات والمؤسسات التعليمية بسهولة نسبية.
تولى تأسيس المعهد شخصيات إخوانية بارزة، أبرزهم: أحمد جاب الله، الذي أصبح لاحقًا رئيسًا لاتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا (المعروف حاليًا بـ"مسلمو فرنسا")، وهو الواجهة الرئيسية للجماعة في البلاد.
أما التمويل، فقد كان حجر الزاوية في نجاح المشروع، تشير التقارير إلى أن المعهد تلقى دعمًا ماليًا ضخمًا من مؤسسة قطر الخيرية، مما مكنه من شراء المقر الواسع وتجهيزه وتغطية نفقاته التشغيلية.
تم تقديم المعهد للمجتمع الأوروبي كمنارة للعلم والمعرفة، تدرس "العلوم الإنسانية" بشكل عام، مع التركيز على الدراسات الإسلامية، هذه التسمية الفضفاضة كانت تهدف إلى إعطاء انطباع بالانفتاح الأكاديمي، بينما كان المنهج الداخلي مصممًا لغرس فكر مؤسسي الجماعة، مثل حسن البنا وسيد قطب، في عقول الطلاب الذين توافدوا عليه من جميع أنحاء أوروبا ليصبحوا أئمة ودعاة المستقبل.
دور وظيفي
من جانبه، يقول ماهر فرغلي الخبير في شئون الجماعات الإسلامية: لم يكن المعهد مجرد مؤسسة تعليمية، بل كان أداة وظيفية متعددة الأغراض تخدم أجندة الإخوان على عدة مستويات، كانت وظيفته الأساسية هي "صناعة الكوادر"، حيث عمل على تخريج مئات الأئمة والدعاة الذين تم توزيعهم لاحقًا على شبكة واسعة من المساجد والمراكز الإسلامية التابعة للتنظيم في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وبلجيكا وغيرها.
وأضاف فرغلي لـ"العرب مباشر": هؤلاء الخريجون لم يكونوا مجرد أئمة تقليديين، بل كانوا "سفراء" للفكر الإخواني، مكلفين بنشر رؤية الجماعة حول قضايا مثل الهوية الإسلامية في الغرب، والعلاقة مع الدولة العلمانية، والمشاركة السياسية.
وتابع: الوظيفة الثانية كانت "التشبيك والتنظيم"، كان المعهد بمثابة ملتقى سنوي تجتمع فيه قيادات وناشطو الإخوان من مختلف الدول الأوروبية تحت غطاء المؤتمرات والندوات الأكاديمية، مضيفًا، هذه اللقاءات كانت فرصة لتبادل الخبرات، وتنسيق المواقف، وتوحيد الخطاب، وتعزيز الروابط التنظيمية بين فروع الجماعة المختلفة في القارة. وبهذا، تحول المعهد من مجرد مؤسسة تعليمية إلى مركز قيادة وتوجيه غير رسمي للتنظيم في أوروبا.
وأكمل فرغلي، أن الوظيفة الثالثة، كانت "الشرعنة الفكرية"، من خلال إصدار الفتاوى والدراسات وتقديم دورات "الشريعة"، عمل المعهد على توفير غطاء ديني وأكاديمي لمواقف التنظيم السياسية.
على سبيل المثال، كان المعهد، عبر "المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث" الذي أسسه يوسف القرضاوي (الأب الروحي للجماعة)، يصدر فتاوى تتعلق بحياة المسلمين في أوروبا، تهدف في جوهرها إلى تعزيز الانعزالية المجتمعية وخلق "فقه أقليات" يرسخ الشعور بالتميز عن المجتمع المضيف بدلاً من الاندماج فيه.
لقد كان المعهد هو السلطة التي تمنح الشرعية الدينية لأجندة الإخوان السياسية.
تأثير عميق
امتد تأثير المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية عميقًا داخل المجتمعات المسلمة في أوروبا على مدى ثلاثة عقود، التأثير الأبرز كان "أدلجة الخطاب الديني" في مئات المساجد.
فبدلاً من الخطاب الروحي التقليدي، أصبح الخطاب السائد في الكثير من المراكز التابعة للإخوان يركز على مفاهيم "الإسلام السياسي" مثل "الحاكمية"، و"المظلومية"، وضرورة العمل المنظم لاستعادة "أمجاد الأمة"، هذا الخطاب ساهم في خلق حالة من الاستقطاب بين جزء من الشباب المسلم والمجتمعات الأوروبية.
التأثير الثاني كان على مستوى "الهوية"، عمل المعهد بشكل ممنهج على تعزيز هوية إسلامية منغلقة، ترى في القيم الغربية تهديدًا وجوديًا، من خلال مناهجه، كان يصور العلاقة مع الغرب كعلاقة صراع، ويحذر من "ذوبان" المسلمين في المجتمعات العلمانية.
هذا الأمر ساهم في إعاقة اندماج الكثير من الشباب، وجعلهم يعيشون في حالة "اغتراب ثقافي"، ممزقين بين ولائهم لدينهم كما يصوره لهم التنظيم، وبين انتمائهم لمجتمعاتهم الأوروبية.
أما التأثير الثالث، فكان "التغلغل المؤسسي"، نجح خريجو المعهد وقياداته في السيطرة على العديد من الهيئات التمثيلية للمسلمين في أوروبا، وأصبحوا المتحدثين "الرسميين" باسم الجاليات المسلمة أمام الحكومات ووسائل الإعلام.
هذا الأمر منحهم نفوذًا سياسيًا كبيرًا، ومكنهم من الحصول على تمويل حكومي لمشاريعهم، والتأثير على السياسات العامة المتعلقة بالمسلمين.
لقد كان تأثير المعهد أشبه بشبكة "عنكبوتية" معقدة، تبدأ من قاعات الدراسة في "نييفر"، وتنتهي في أروقة السياسة والمساجد في جميع أنحاء القارة.