انسحاب إسرائيلي جزئي وعودة حذرة إلى الشمال.. غزة تختبر أول أيام السلام

انسحاب إسرائيلي جزئي وعودة حذرة إلى الشمال.. غزة تختبر أول أيام السلام

انسحاب إسرائيلي جزئي وعودة حذرة إلى الشمال.. غزة تختبر أول أيام السلام
حرب غزة

في مشهد يختصر مأساة الحرب ودهشة البقاء، عاد آلاف الفلسطينيين إلى بقايا منازلهم في قطاع غزة بعد إعلان وقف إطلاق النار وبدء انسحاب القوات الإسرائيلية من بعض المناطق، وجوه أنهكها النزوح، وأقدام تسير فوق الركام بحثًا عن مأوى أو أثر من حياةٍ انقضى عليها عامان من القصف، فمن الشمال إلى الجنوب، تتقاطع الحكايات ذاتها، منازل سويت بالأرض، ذكريات ضاعت تحت الأنقاض، وأملٌ في البدء من جديد، ومع كل خطوة نحو المدن المنكوبة، ترتفع الأسئلة حول مستقبل هذه الهدنة، وحدود ما يمكن أن تمنحه من طمأنينةٍ مؤقتة في حربٍ أحرقت الأخضر واليابس، لكن خلف مشهد العائدين، ثمّة اختبار حقيقي للاتفاق الذي رعته واشنطن ووسطاء إقليميون، هل تمهّد هذه الهدنة لنهاية الحرب، أم لمرحلة أخرى من الصراع البارد على أرضٍ لم تعرف السكون يومًا؟

البيوت صارت رماد


بدأت فجر الجمعة ملامح تحولٍ ميداني في غزة، إذ شرع آلاف الفلسطينيين في العودة إلى مناطقهم المدمرة عقب دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ رسميًا عند الساعة الثانية عشرة ظهرًا بالتوقيت المحلي.

الانسحاب الجزئي للقوات الإسرائيلية من بعض المناطق الحضرية، والذي يشكل المرحلة الأولى من خطة السلام الأمريكية، فتح الطريق أمام مشهد إنساني غير مسبوق منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023.

على الطرق المؤدية إلى مدينة غزة، كانت الحشود تتحرك بصمتٍ ثقيل، رجالٌ يحملون أكياسًا بلاستيكية تحتوي على ما تبقى من ممتلكاتهم، نساءٌ تجرّ أطفالًا أنهكتهم سنوات النزوح، ووجوهٌ لا تعرف إن كانت تعود إلى "البيت" أم إلى ذاكرةٍ غابت بين الدمار.

قال محمد خالد، أحد العائدين إلى حي الشيخ رضوان: "الحمد لله البيت لسه واقف.. بس الحي كله راح، البيوت صارت رماد، والشوارع ما عاد فيها روح".

وفي الجنوب، تكررت المشاهد نفسها في خان يونس، المدينة التي كانت يومًا نابضة بالحياة قبل أن تحوّلها آلة الحرب إلى أطلال.

يحيى حسن، الذي كان يدفع دراجة هوائية محملة بالأخشاب، قال بصوتٍ خافت: "رجعنا على منطقتنا.. إبادة كاملة، ما ظل شي. البيت اندفن تحت الركام، وما قدرنا نطلع ولا حاجة".

الدموع امتزجت بالأتربة حين وقف بعض العائدين أمام جدران نصف مهدّمة، يحاولون تمييز ملامح بيوتهم، آخرون افترشوا الشوارع في انتظار ما ستكشفه الأيام عن مصير أحبّائهم المفقودين.

انتشال 100 جثة من تحت الأنقاض


السلطات الصحية الفلسطينية أعلنت، أن فرق الإنقاذ انتشلت أكثر من 100 جثة من تحت الأنقاض في الساعات الأولى بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي.


 مشاهد الموت تلك، وإن لم تكن جديدة على غزة، فإنها بدت هذه المرة أكثر قسوة لأنها تزامنت مع بريق الأمل بانتهاء الحرب.

على الجانب الإسرائيلي، أعلن المتحدث باسم الجيش الجنرال إيفي ديفرين أن "القوات ملتزمة بتنفيذ بنود الهدنة"، لكنه حذر السكان من دخول المناطق التي ما تزال تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية، في محاولة لتفادي خرق الاتفاق.

أما في الشارع الفلسطيني، فقد اختلطت المشاعر بين فرحةٍ حذرة وغضبٍ مكتوم. قال أنس المصري، وهو من سكان غزة: "ما في بيوت.. مهدمة كلها، بس رغم هيك، رجعنا، الرجعة نفسها فرحة، حتى لو فوق الدمار".

تعويض النقص الهائل


من جانبه يقول بلال شعيب الخبير الاقتصادي: إن عودة الفلسطينيين إلى مناطقهم المدمرة في قطاع غزة تمثل خطوة محمّلة بالتحديات على المستويين الإنساني والاجتماعي، بل وحتى الأمني، فالعودة التي بدت للوهلة الأولى انتصارًا للإرادة الإنسانية بعد عامين من النزوح القسري، تكشف عند التدقيق عن واقع شديد التعقيد، حيث يصطدم العائدون بغياب البنية التحتية الأساسية وانعدام الحد الأدنى من مقومات الحياة.

وأضاف شعيب في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن أول هذه التحديات يتعلق بتأمين المأوى. فمعظم المنازل تعرضت لدمار شامل أو جزئي، ما يدفع العائلات للعيش وسط الركام أو في خيام بدائية تفتقر لمقومات الأمان والصحة، أما الخدمات الأساسية—مثل المياه والكهرباء والصرف الصحي—فهي شبه غائبة تمامًا في المناطق الحدودية والشمالية من القطاع، ويبرز كذلك تحدٍ خطير يتعلق بالمخلفات الحربية والقذائف غير المنفجرة، ما يجعل عودة السكان دون عمليات مسح هندسي أمرًا يشكل خطرًا يوميًا على حياتهم.

وتابع شعيب، على المستوى الاقتصادي، يواجه السكان انهيارًا كاملاً في مصادر الرزق بعد تدمير الأسواق والمصانع وشبكات الصيد والزراعة، كما يُتوقع أن تؤدي الصدمات النفسية المتراكمة إلى أزمة اجتماعية طويلة الأمد، خصوصًا في صفوف الأطفال الذين شكّلت الحرب ملامح طفولتهم.

وشدد شعيب على أهمية تكثيف دخول شاحنات المساعدات بشكل متوالي لتعويض النقص الهائل في الاحتياجات بشكل عامًا، فأهالي القطاع يحتاجون إلى الطعام والدواء والأدوات بكميات كبيرة حتى يتم إعادة بناء الاقتصاد من جديد.

خطة ترامب


الاتفاق الذي رعته واشنطن ويُعرف بـ"خطة ترامب للسلام"،
يقضي بانسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية من نحو نصف أراضي القطاع، مقابل التزامات أمنية وضمانات بوقف العمليات من كلا الجانبين.

ورغم الترحيب الحذر، يظل التساؤل مطروحًا حول جدية هذه الهدنة، في ظل تاريخٍ طويل من الانهيارات المفاجئة لأي اتفاق مماثل.

سياسيًا، أعلنت حركة حماس -على لسان خليل الحية-، أنها تلقت "ضمانات واضحة من الولايات المتحدة والوسطاء تؤكد انتهاء الحرب نهائيًا".

لكن محللين يرون أن الحديث عن "نهاية الحرب" سابق لأوانه، فالقضايا الجوهرية — من إعادة الإعمار إلى ملف الأسرى والحدود — ما تزال عالقة، وتحتاج إلى مفاوضات شاقة.

ويُعتقد أن 20 من المحتجزين الإسرائيليين ما زالوا أحياء داخل القطاع، بينما قُتل 26 آخرون، وما يزال مصير اثنين مجهولًا، ما يجعل من ملف المحتجزين أحد أكثر الملفات تعقيدًا في أي تسوية مستقبلية.

وبينما يحتفل البعض بوقف إطلاق النار، تشير الأرقام إلى مأساة عميقة: أكثر من 67 ألف فلسطيني فقدوا حياتهم خلال عامين من الحرب، فيما نزح نحو مليوني شخص داخليًا، لتتحول غزة إلى واحدة من أكثر بقاع الأرض تدميرًا.

لكن وسط هذا المشهد الكارثي، تلوح إرادة الحياة. فكل بيتٍ يُعاد إليه، وكل طفلٍ يجد لعبةً تحت الركام، يمثل إعلانًا جديدًا بأن غزة — رغم الجراح — ما تزال قادرة على النهوض.