فرنسا تغلي.. حرب شوارع مصغرة في باريس.. ماذا يحدث؟

فرنسا تغلي.. حرب شوارع مصغرة في باريس.. ماذا يحدث؟

فرنسا تغلي.. حرب شوارع مصغرة في باريس.. ماذا يحدث؟
احتجاجات فرنسا

تعيش فرنسا أيامًا مضطربة أعادت إلى الأذهان مشاهد حركة "السترات الصفراء" التي شغلت العالم عام 2018، لكن هذه المرة تبدو المعادلة أكثر تعقيدًا، فالحراك الحالي لا ينطلق فقط من مطالب اقتصادية تقليدية، بل يتغذى من حالة غضب اجتماعي وسياسي متراكم، ومن شعور متزايد بفقدان الثقة بين الشارع والسلطة، خلال الساعات الأخيرة، تحولت مدن كبرى مثل باريس ورين ونانت إلى مسارح لاشتباكات عنيفة وعمليات قطع طرق وإشعال حرائق، ما دفع وزارة الداخلية إلى حشد أكبر قوة أمنية منذ سنوات، ومع تولي سيباستيان ليكورنو منصب رئيس الوزراء في ظرف سياسي حساس، تبدو حكومته أمام تحدٍّ مصيري، إما احتواء موجة الغضب بالحوار والتنازلات، أو الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة مع الشارع الفرنسي.

باريس.. بؤرة التوتر


تصدّرت شوارع فرنسا المشهد السياسي الأوروبي مجددًا بعدما تحولت دعوات حركة "لنغلق كل شيء" إلى موجة احتجاجات شاملة شلّت الحركة في العشرات من المدن الكبرى.


وزارة الداخلية أعلنت تسجيل 550 تجمعًا و253 عملية قطع طرق في يوم واحد، وهو رقم يعكس حجم التعبئة التي لم تشهدها البلاد منذ سنوات، وبينما قدرت النقابة العمالية CGT أعداد المشاركين بنحو ربع مليون متظاهر، تركزت أكثر المواجهات عنفًا في العاصمة باريس حيث سجلت السلطات 211 عملية توقيف، وأغلقت مراكز تجارية ومحطات رئيسة بعد اندلاع حرائق وأعمال تخريب متفرقة.


في قلب العاصمة، بدا مشهد الاحتجاجات أقرب إلى "حرب شوارع" مصغرة، محيط شاتليه-ليه هال تحوّل إلى منطقة مغلقة بعدما أغلقت السلطات مركز التسوق "فوروم ديه هال"، فيما تصاعدت أعمدة الدخان من مطعم أُضرم فيه النار.


الشرطة لجأت إلى الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريق المتظاهرين الذين حاولوا اقتحام محطة غار دو نور، واعتقلت العشرات وسط مشهد أعاد إلى الأذهان احتجاجات 2019 العنيفة.

غضب في الغرب والجنوب


مدينة رين بدورها شهدت أكثر من 10 آلاف متظاهر، وأُضرمت النار في حافلة تابعة لشبكة النقل المحلية، فيما أغلقت الطرق بالإطارات المشتعلة، أما في نانت، فقد وصل التصعيد إلى حد محاصرة مدخل مستشفى CHU، ما اضطر قوات الأمن للتدخل العاجل لتأمين المرافق الصحية قبل أن يتجمع نحو ألفي متظاهر وسط المدينة في مواجهة مباشرة مع الشرطة.


في مرسيليا، حاول المئات اقتحام محطة سان شارل المركزية قبل أن تصدهم قوات مكافحة الشغب، أما تولوز وأوش فشهدتا أعمال تخريب طالت محطات الحافلات، فيما تسبب حريق بالقرب من خطوط السكك الحديدية في تعطيل حركة القطارات، لتتسع رقعة الشلل إلى قطاعات النقل.


وفي ليون، سجلت إصابات في صفوف الشرطة، بينما تعرضت متاجر بوردو للتخريب ما دفع بلدية المدينة إلى إصدار بيان يدعو للهدوء ويدين العنف.

تعبئة أمنية غير مسبوقة


وزارة الداخلية دفعت بـ80 ألف شرطي ودركي، مدعومين بـ26 مروحية و25 آلية مدرعة، في أكبر استنفار أمني منذ احتجاجات السترات الصفراء، الرسالة الرسمية كانت واضحة، منع انزلاق البلاد إلى حالة فوضى شاملة، لكن المعارضة تتهم الحكومة بمحاولة "تخويف الشارع" بدلًا من معالجة أسباب الغضب، خصوصًا مع استمرار إغلاق نحو مئة ثانوية وتعطل الدراسة في 27 منها بشكل كامل.


تزامن الحراك مع تعيين سيباستيان ليكورنو رئيسًا جديدًا للوزراء بعد فشل فرنسوا بايرو في نيل ثقة الجمعية الوطنية، وهو ما يضع الحكومة في موقف دقيق وهي تسعى لتمرير ميزانية تقشفية تهدف لخفض الديون. صحيفة "لوفيغارو" رأت أن الاحتجاجات لم تتحول بعد إلى انتفاضة شاملة، لكنها تضع الحكومة أمام اختبار حقيقي لقدرتها على استعادة الثقة، لا سيما أن المعارضة اليسارية بزعامة "فرنسا الأبية" تحاول استثمار الزخم الشعبي لتعزيز موقعها قبل الإضراب الكبير المقرر في 18 سبتمبر.


المراقبون يُحذرون من أن تجاهل المطالب الاجتماعية قد يدفع الشارع إلى مزيد من التصعيد. فالحراك هذه المرة ليس مؤطَّرًا نقابيًا بالكامل، بل تحركه شبكات التواصل الاجتماعي التي تجعل التنسيق أصعب على السلطات.


إن قدرة الحكومة على استيعاب هذا الغضب أو فشله قد تحدد ملامح المرحلة المقبلة في فرنسا، وربما تفتح الباب على أزمة سياسية مطولة تُضعف قدرة السلطة على تنفيذ برنامجها الاقتصادي.

اختبار حقيقي


من جانبه، يقول أستاذ العلوم السياسية الدكتور طارق فهمي: إن ما يجري في فرنسا اليوم يتجاوز كونه موجة غضب عابرة، بل يمثل اختبارًا حقيقيًا لمدى قدرة الدولة على إعادة بناء جسور الثقة مع الشارع. 


ويرى فهمي - خلال حديثه لـ"العرب مباشر" - أن دخول حكومة سيباستيان ليكورنو إلى المشهد في هذا التوقيت يضاعف الضغط على السلطة، إذ يتعين عليها تحقيق توازن دقيق بين فرض الأمن وحماية المؤسسات من جهة، والاستجابة للمطالب الاجتماعية المتنامية من جهة أخرى. 


ويُشير إلى أن الحراك الحالي يختلف عن احتجاجات "السترات الصفراء" لأنه خرج من رحم وسائل التواصل الاجتماعي بعيدًا عن الهياكل النقابية التقليدية، ما يجعل قيادته أو احتوائه أكثر صعوبة. 


ويُحذر فهمي من أن استمرار التصعيد قد يقود إلى ما يشبه "انتفاضة اجتماعية" إذا فشلت الحكومة في تقديم تنازلات ملموسة، خصوصًا أن المعارضة تُحاول استثمار هذا الزخم لإعادة ترتيب المشهد السياسي قبل الاستحقاقات المقبلة. ويخلص إلى أن الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كانت فرنسا ستدخل مرحلة مفاوضات جدية أم أن البلاد ستشهد دورة جديدة من المواجهات المفتوحة التي قد تُهدد استقرار الحكومة.

أزمة ثقة


في السياق ذاته، يرى الدكتور ماهر نقولا الفرزلي، مدير المعهد الأوروبي الآسيوي للدراسات، أن فرنسا تعيش اليوم لحظة مفصلية تتجاوز مجرد الاحتجاجات في الشارع، لتكشف عن أزمة ثقة عميقة بين الشعب ومؤسسات الحكم، ويُشير إلى أن شعبية الرئيس إيمانويل ماكرون تراجعت إلى مستويات تاريخية، حيث لا يحظى بثقة سوى أقل من خُمس الفرنسيين وفق استطلاعات الرأي الأخيرة.


ويؤكد الفرزلي - في حديثه لـ"العرب مباشر" - أن الأزمة الراهنة متعددة الأبعاد، فهي ليست سياسية فحسب، بل تمتد إلى الجوانب المالية والصناعية والاجتماعية، وهو ما يضع النظام السياسي برمته أمام اختبار حقيقي.


ويُضيف أن استقالة رئيس الوزراء السابق ثم تعيين سيباستيان ليكورنو على رأس حكومة جديدة تكشف عن حالة من الاضطراب في آليات الحكم، بينما بات دستور الجمهورية الخامسة، الذي صممه الجنرال ديجول لضمان الاستقرار، عرضة للاهتزاز بعد ستة عقود من تأسيسه، أما عن الاحتجاجات الأخيرة، فيرى الفرزلي أن حجمها لا يزال محدودًا قياسًا بالحركات الاجتماعية الكبرى التي شهدتها فرنسا سابقًا، لكن خطورتها تكمن في تصاعد العنف وتحرك جماعات متطرفة تسعى لإشاعة الفوضى.