بين شرقٍ وغربٍ لا يلتقيان.. ليبيا تُجرب طريق المصالحة من بوابة المناصب
بين شرقٍ وغربٍ لا يلتقيان.. ليبيا تُجرب طريق المصالحة من بوابة المناصب

في بلد أنهكته الانقسامات وتاهت فيه مؤسسات الدولة بين سلطتين متنازعتين، تعود ليبيا اليوم إلى الواجهة مجددًا، لكن هذه المرة عبر بوابة "المناصب السيادية"، اتفاق جديد بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة أشعل موجة من التفاؤل الحذر، بعد إعلان التوصل إلى تفاهم حول تسمية أربعة مناصب رئيسية، أبرزها المفوضية العليا للانتخابات، في خطوة يُنظر إليها على أنها محاولة لتمهيد الطريق أمام استحقاق انتخابي طال انتظاره، غير أن هذا التفاهم، رغم طابعه الإيجابي، يثير تساؤلات حول مدى قدرته على تجاوز إرث التعقيد السياسي والولاءات المتشابكة التي تعيق أي مشروع توحيد وطني حقيقي.
فهل نحن أمام بداية مسار إصلاحي يعيد رسم ملامح الدولة الليبية؟ أم مجرد هدنة سياسية مؤقتة تسبق موجة جديدة من الصراع؟
اتفاق يفتح نافذة في جدار الأزمة
بعد أشهر من المراوحة السياسية، أعلن مجلس النواب الليبي والمجلس الأعلى للدولة توصلهما إلى اتفاق بشأن توزيع أربعة مناصب سيادية، على أن تُمنح الأولوية للمفوضية العليا للانتخابات، خطوة وصفها مراقبون بأنها "إشارة خجولة" نحو التفاهم، لكنها ما تزال بعيدة عن أن تكون تسوية حقيقية للأزمة الممتدة منذ أكثر من عقد.
ووفق ما كشفه النائب البرلماني المهدي الأعور، فإن كل مجلس سيتولى ترشيح الأسماء الخاصة بالجهات الموكلة إليه، قبل رفع القائمة النهائية لمجلس النواب لاعتمادها رسميًا.
ويُتوقع أن تشمل المناصب كلاً من ديوان المحاسبة، وهيئة الرقابة الإدارية، والمصرف المركزي، والمفوضية العليا للانتخابات.
يرى المحلل السياسي الليبي سالم سويري، أن الاتفاق "يمثل خطوة إيجابية في مسار البحث عن تسوية شاملة، لكنه لا يُعد بعدُ حاسمًا"، موضحًا أن "الأزمة الليبية ليست أزمة مناصب بقدر ما هي أزمة هوية سياسية ومؤسسات منقسمة على ذاتها".
ويضيف سويري -في حديثه لـ"العرب مباشر"-، أن الاتفاق الجديد يعكس بداية تحريك المياه الراكدة بين طرفين اعتادا التنافر، إلا أن التحدي الحقيقي يكمن في مدى الالتزام بتنفيذه ضمن إطار زمني واضح.
"إذا ما تمت العملية بشفافية"، يقول سويري، "فقد تسهم في استعادة بعض الثقة، وتمهيد الطريق نحو استحقاق انتخابي يُعيد الشرعية إلى مؤسسات الدولة".
لكن الرجل لا يُخفي مخاوفه من عودة سيناريوهات العرقلة، خصوصًا مع استمرار الانقسام الأمني وتعدد مراكز النفوذ في الغرب والشرق، ما يجعل أي اتفاق عرضة للتجاذب السياسي أو الميداني.
تنازع المصالح وتعدد الولاءات
في المقابل، يذهب المحلل السياسي أيوب الأوجلي إلى رؤية أكثر تشاؤمًا، معتبرًا أن ما حدث "ليس اتفاقًا وطنيًا بقدر ما هو تقاسم للسلطة بين المجلسين".
ويضيف الأوجلي في تصريحات لـ"العرب مباشر"، كل تفاهم بين النواب والدولة يأتي عندما تتقاطع مصالحهما، لا عندما تُفرض مصلحة الشعب الليبي. فالاتفاقات المتكررة لم تنتج سوى تمديد للأزمة وإطالة لعمر المؤسسات المنقسمة.
ويحذّر الأوجلي من أن استمرار هذا النمط من التوافقات الشكلية دون مشروع واضح لإعادة بناء مؤسسات الدولة سيؤدي إلى مزيد من الفساد والهدر، مشددًا على أن "الطريق الوحيد نحو الاستقرار يمر عبر قانون انتخابات شفاف وانتقال فعلي نحو مرحلة شرعية جديدة، بعيدًا عن صفقات الغرف المغلقة".
خلفية سياسية معقّدة
يأتي هذا الاتفاق في سياق مشهد ليبي متشظٍ، تعيش فيه البلاد على وقع ازدواجية السلطة منذ عام 2014، مع حكومة في طرابلس وأخرى في الشرق. محاولات توحيد المؤسسات جرت سابقًا بوساطة أممية وإقليمية، لكنها كانت تصطدم دومًا بحسابات النفوذ والمصالح الداخلية والخارجية.
وقد لعبت دول مثل: مصر وتركيا وقطر والإمارات أدوارًا متباينة في توجيه مسارات الحوار، فيما ظلّ المبعوث الأممي يحاول التوفيق بين الأطراف دون نجاح يُذكر في الوصول إلى انتخابات جامعة.
ويؤكد مراقبون، أن حسم ملف المناصب السيادية قد يشكل اختبارًا فعليًا لقدرة المجلسين على الانتقال من "لغة المحاصصة" إلى "منطق الدولة"، وهو ما سيكون له تأثير مباشر على المسار الانتخابي المرتقب في 2026.
رغم تواضع الخطوة، فإنها فتحت بابًا للأمل لدى جزء من الشارع الليبي الذي سئم الانقسام، خصوصًا مع تصاعد الدعوات الدولية لضرورة إنهاء المرحلة الانتقالية الطويلة.
لكن خبراء يحذرون من الإفراط في التفاؤل، فالاتفاقات السابقة بين الأطراف نفسها كثيرًا ما انهارت قبل دخولها حيّز التنفيذ.
ويرى محللون، أن التحدي الحقيقي يكمن في بناء إرادة سياسية قادرة على مواجهة النفوذ المتعدد داخل البلاد، إلى جانب توافق حقيقي حول شكل الدولة المقبلة، وهي معادلة ما تزال بعيدة المنال في ظل غياب رؤية موحدة بين الشرق والغرب.