مشروع قانون الحشد.. لعبة التوازن بين واشنطن وطهران وبغداد

مشروع قانون الحشد.. لعبة التوازن بين واشنطن وطهران وبغداد

مشروع قانون الحشد.. لعبة التوازن بين واشنطن وطهران وبغداد
العراق

تتقاطع السياسة العراقية عند مفترق حساس، عنوانه مشروع قانون "الحشد الشعبي" الذي تحوّل إلى ملف شائك يجمع بين النفوذ الخارجي، والتجاذبات الداخلية، والرهانات الانتخابية، فبينما تُمارس الولايات المتحدة ضغوطًا علنية وخفية لعرقلة تمرير القانون، تسعى القوى الشيعية إلى الموازنة بين إرضاء جمهورها المرتبط بالحشد، وتجنّب الدخول في مواجهة مباشرة مع واشنطن.

في المقابل، يراقب الأكراد والسنّة المشهد عن كثب، متمسكين بموقف رافض لأي نقاش تحت قبة البرلمان حول المشروع، هذه المعادلة المعقدة تزداد تشابكًا مع اقتراب موسم الحملات الانتخابية، حيث تتبدل المواقف بتبدل حسابات المكاسب والخسائر، في ظل غياب رؤية موحّدة حتى داخل البيت الشيعي، هكذا يظهر القانون كأنه ورقة ضغط انتخابية أكثر منه مشروعًا تشريعيًا، لتبقى تساؤلات حاسمة معلّقة، هل يمر القانون بصفقة في اللحظة الأخيرة؟ أم يبقى ورقة للمساومة السياسية بين الداخل والخارج.


معادلة معقدة


منذ تأسيسه في أعقاب اجتياح تنظيم "داعش" للعراق عام 2014، مثّل "الحشد الشعبي" حالة جدلية داخل المشهد العراقي. فقد نشأ بفتوى دينية، لكنه سرعان ما تحوّل إلى قوة عسكرية وسياسية لها وزن معتبر على الأرض.


اليوم، مع اقتراب الانتخابات البرلمانية، يعود الحديث بقوة عن قانون يشرعن وضعه ويمنحه حصانة قانونية كاملة، في خطوة تثير انقسامًا واسعًا في الداخل العراقي، وتفتح الباب أمام تدخلات إقليمية ودولية متشابكة.


القوى السنيّة والكردية أعلنت بوضوح موقفها: رفض المشاركة في أي جلسة يتضمن جدول أعمالها التصويت على مشروع القانون.


وهو موقف يعكس مخاوف عميقة من تكريس "الحشد" كقوة موازية للمؤسسة العسكرية، وربما كأداة سياسية قد تُستَخدم لترجيح موازين القوى في مناطق متنازع عليها. في المقابل، يجد البيت الشيعي نفسه أمام معادلة أعقد، فعدد مقاعده كفيل بتمرير القانون بسهولة، لكن الانقسام الداخلي وضغوط واشنطن يعقدان الحسابات.


فعمليًا، تمتلك الكتل الشيعية أكثر من 180 نائبًا، بينما يحتاج القانون إلى 166 صوتًا فقط، ومع ذلك، لم يُدرج المشروع على جدول جلسات البرلمان للأسبوع الحالي.


والسبب – وفق مصادر مطلعة – هو اتفاق ضمني بين أطراف "الإطار التنسيقي" على تأجيل الملف، في محاولة لامتصاص الضغوط الأمريكية، وتجنب تفجير أزمة دبلوماسية جديدة مع واشنطن التي ترى في تشريع القانون تعزيزًا لنفوذ إيران داخل العراق.

شراء وقت


لكن التناقض في التصريحات السياسية يشي بحقيقة أخرى، المشروع تحوّل إلى ورقة انتخابية، فبينما يتحدث بعض النواب عن "إنجاز المسودة النهائية ورفعها إلى رئاسة البرلمان"، يعلن آخرون عن "سحب القانون بالتوافق"، هذا التضارب ليس مجرد ارتباك، بل يعكس توظيفًا مزدوجًا للقضية، خطاب داخلي موجّه للناخبين والمتعاطفين مع الحشد، وخطاب آخر مهادن للخارج يطمئن الولايات المتحدة بأن العراق لا يسعى إلى تحديها.


مراقبون وصفوا المشهد بأنه "محاولة لشراء الوقت"، قدّم قراءة لافتة: القوى الشيعية تدرك أن الصدام المباشر مع واشنطن مكلف، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع أن تظهر بمظهر المتخلّي عن الحشد أمام جمهورها. ومن هنا يخرج النواب بتصريحات متناقضة، تصل أحيانًا إلى التلويح بدخول البرلمان مرتدين زي "الحشد الشعبي"، في محاولة لشدّ العصب الشعبي قبيل الانتخابات.


من جانبهم يرى مراقبون، أن هذا الازدواج في المواقف يعكس أيضًا حسابات أوسع تتعلق بتوازنات داخل المكوّن الشيعي نفسه.


فبينما يحظى القانون بتأييد نحو 116 نائبًا شيعيًا حتى الآن، فإن أكثر من 50 نائبًا ما زالوا مترددين، خشية من أن يؤدي تمرير القانون إلى تكريس الانقسام مع المكوّنات الأخرى، أو إلى صدام مع الأمريكيين الذين يملكون أدوات ضغط اقتصادية وأمنية لا يُستهان بها.


اللافت أن بعض النواب حاولوا الالتفاف على مقاطعة الكتل الأخرى، من خلال جمع تواقيع لإدراج القانون في جدول الأعمال بالقوة، هو ما يفتح الباب أمام أزمة مؤسسية داخل البرلمان، قد تصل إلى عقوبات بحق النواب المتغيبين عن الجلسات، كما لوّح بعض قيادات "الإطار التنسيقي".


المؤشرات تميل إلى الاحتمال الثاني. فالقانون بات جزءًا من معركة النفوذ بين واشنطن وطهران داخل العراق، أكثر منه استحقاقًا تشريعيًا. كما أنه تحوّل إلى ورقة ضغط انتخابية، حيث توظفه بعض القوى الشيعية لكسب ودّ الناخبين المرتبطين بالحشد أو المتعاطفين معه، فيما تستخدمه قوى أخرى كرسالة تحدٍ أو كعربون مهادنة.


على المستوى الاستراتيجي، فإن تمرير القانون – إن حدث – لن يكون مجرد قرار برلماني داخلي، بل سيحمل انعكاسات مباشرة على علاقة بغداد بواشنطن، وعلى توازن القوى بين المكوّنات العراقية. أما فشله، فسيضعف موقف القوى الشيعية أمام جمهورها، ويعزز رواية خصومها بأن الحشد يبقى مجرد أداة سياسية في أيدي حلفاء إيران.

في المحصلة، يبدو أن قانون "الحشد الشعبي" دخل بالفعل أجواء السباق الانتخابي قبل أن يدخل قاعة البرلمان. وهو ما قد يجعل مساره محكومًا بمنطق الصفقات والمواءمات السياسية أكثر من منطق المؤسسات والقوانين.

إداة صراع


من جانبه، يرى المحلل السياسي العراقي وائل الركابي أن الجدل الدائر حول مشروع قانون "الحشد الشعبي" لا يمكن قراءته بعيدًا عن السياق السياسي الأوسع في العراق.


يقول الركابي - في تصريح لـ"العرب مباشر" - : إن "القانون تحوّل إلى أداة للصراع أكثر من كونه إطارًا تنظيميًا لقوة قائمة على الأرض"، مشيرًا إلى أن القوى السياسية، خصوصًا الشيعية منها، تستخدمه كورقة مزدوجة: الأولى لإرضاء القواعد الشعبية التي ترى في الحشد مؤسسة وطنية ساهمت في حماية البلاد من الإرهاب، والثانية للتفاوض مع الأطراف الدولية والإقليمية من موقع قوة.


ويُضيف الركابي أن "الولايات المتحدة تمارس ضغوطًا مكشوفة لمنع تمرير القانون لأنها تدرك أن إقراره سيمنح الحشد شرعية قانونية تعزز حضوره داخل بنية الدولة، وهو ما تعتبره واشنطن تكريسًا لنفوذ إيراني متصاعد". لكنه في المقابل يرى أن القوى الشيعية ليست على قلب رجل واحد، وأن بعض الكتل لا تريد خسارة علاقاتها مع الأميركيين، الأمر الذي يفسر التضارب في المواقف.


ويخلص الركابي إلى أن مصير القانون لن يُحسم إلا في ضوء التفاهمات الانتخابية المقبلة، معتبرًا أن "أي اتفاق داخلي شيعي – شيعي، إذا ما تحقق، سيكون أقوى من أي ضغط خارجي"، لكنه يُشدد على أن احتمالات التسوية تبقى رهينة التوازنات بين الداخل والخارج معًا.