لا غالب ولا مغلوب.. المغرب يدعو الجزائر لتجاوز القطيعة والانطلاق نحو وحدة إقليمية
لا غالب ولا مغلوب.. المغرب يدعو الجزائر لتجاوز القطيعة والانطلاق نحو وحدة إقليمية

في لحظة بدت فيها الجغرافيا ساكنة والحدود مغلقة، فتح العاهل المغربي محمد السادس نافذة أمل جديدة في جدار الأزمة الممتد بين الرباط والجزائر، وعلى الرغم من برود العلاقات التي خيّمت لسنوات على الجوار المغاربي، اختار الملك أن يوجه رسائل مباشرة وواضحة إلى الجارة الشرقية في خطاب العرش، مؤكدًا استعداده الدائم لحوار صادق ومسؤول، تتقدمه الرغبة في رأب الصدع واستعادة منطق الأخوة بدلًا من العداء.
*تغليب التعاون الإقليمي*
من جانبه، يقول عتيق السعيد، أستاذ القانون العام والعلوم السياسية بجامعة القاضي عياض بمراكش: إن دعوة الملك محمد السادس للحوار مع الجزائر تعبّر عن مقاربة استراتيجية مغربية راسخة تقوم على تغليب منطق التعاون الإقليمي على منطق القطيعة، وهي ليست دعوة معزولة بقدر ما تندرج ضمن رؤية شاملة لبناء فضاء مغاربي متكامل وقادر على مواجهة التحديات المشتركة.
ويؤكد السعيد في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن الخطاب الملكي اتسم بالوضوح والواقعية، حيث لم يكتف بالتذكير بروابط الأخوة، بل ربط استقرار المنطقة المغاربية بإعادة تنشيط العلاقات المغربية الجزائرية، مشددًا على أن انخراط البلدين في بناء الاتحاد المغاربي لم يعد خيارًا، بل ضرورة حتمية في ظل تسارع التحولات الجيوسياسية والاقتصادية في العالم.
ويضيف السعيد: أن خطاب العرش هذا العام جاء محمّلاً برسائل دبلوماسية مرنة لكنها حاسمة، إذ حافظ على الثوابت الوطنية بشأن قضية الصحراء، لكنه في الوقت ذاته وجّه إشارات واضحة للجزائر بأن يد المغرب ما تزال ممدودة دون شروط مسبقة.
ويختم بالقول: إن تجاوب الجزائر مع هذه المبادرة من شأنه أن يُحدث اختراقًا تاريخيًا في العلاقات الثنائية، ويوفر الأساس لإطلاق مرحلة جديدة من التكامل الإقليمي الذي طال انتظاره.
الخطاب الذي تزامن مع الذكرى السادسة والعشرين لجلوس الملك على العرش لم يكن فقط استعراضًا للثوابت المغربية حيال قضية الصحراء، بل جاء محمّلًا برمزية سياسية كبيرة تعكس نوايا حقيقية لتحريك المياه الراكدة في العلاقات الثنائية، فهل تلقى الجزائر هذا النداء بآذان مصغية، أم أن التاريخ المتوتر بين البلدين سيظل يحول دون لقاء طال انتظاره في البيت المغاربي.
*صفحة جديدة*
في كلمته بمناسبة عيد العرش، جدّد الملك محمد السادس دعوته للجزائر إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية، داعيًا إلى «حوار صريح وأخوي»، يعكس الروابط العميقة التي تجمع الشعبين الشقيقين.
هذه الدعوة تأتي بعد سنوات من القطيعة الرسمية التي أعلنتها الجزائر في أغسطس 2021، متهمة الرباط بسلسلة "أفعال عدائية"؛ ما أدى إلى إغلاق الحدود وتعليق كافة أشكال التعاون.
لكن الملك، الذي حرص في خطابه على الجمع بين الواقعية السياسية واللغة الوجدانية، بدا وكأنه يحاول كسر الجمود عبر تذكير الجزائر بأن الجغرافيا لا تتغير، وأن المصير المغاربي المشترك لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه.
*رسالة تتجاوز البروتوكول*
لم تكن كلمات العاهل المغربي مجرّد مجاملة دبلوماسية في مناسبة وطنية، بل حملت بين سطورها رسائل موجهة بعناية: تأكيد على الاستعداد للحوار دون شروط مسبقة، تمسك بخيار الوحدة المغاربية، والتذكير بالروابط التاريخية واللغوية والدينية التي يصعب تمزيقها، مهما طال الخلاف.
في هذا السياق، قال الملك: "حرصت دومًا على مد اليد لأشقائنا في الجزائر، وعبرت عن استعداد المغرب لحوار صريح ومسؤول، حوار أخوي وصادق حول مختلف القضايا العالقة"، مضيفًا: أن الالتزام بهذا الموقف نابع من إيمان عميق بوحدة الشعوب المغاربية.
*السياق الإقليمي والدولي*
تأتي هذه الدعوة في لحظة دقيقة تشهد فيها المنطقة المغاربية اضطرابات متفرقة، في ليبيا وتونس ومالي، فضلًا عن تغيرات في المشهد الإقليمي المرتبط بملف الطاقة والهجرة والتعاون الأمني.
وفي ظل هذا المشهد، فإن استمرار التوتر بين أكبر بلدين في شمال إفريقيا يمثل ثغرة استراتيجية خطيرة، تُضعف من فرص التكامل وتزيد من هشاشة الإقليم في مواجهة التحديات المتراكمة.
يقول مراقبون: إن التحول في خطاب الرباط قد يكون أيضًا مرتبطًا بتقديرات سياسية داخلية وخارجية، تدرك أن تجميد العلاقات مع الجزائر لا يخدم مصالح المملكة على المدى الطويل، خصوصًا في ظل تحولات جيوسياسية تشمل توسع نفوذ قوى خارجية في القارة.
*قضية الصحراء.. الثابت في خطاب الملك*
رغم طابع الانفتاح في الخطاب الملكي، ظل ملف الصحراء الغربية حاضرًا كعنوان مركزي في الموقف المغربي، إذ جدد الملك تمسك بلاده بمبادرة الحكم الذاتي كحل نهائي للنزاع، معتبرًا أن المقاربة المغربية تقوم على "لا غالب ولا مغلوب"، في إشارة إلى رغبة الرباط في تسوية النزاع ضمن إطار يحفظ السيادة ويضمن الاستقرار.
هذا الموقف ما يزال يُنظر إليه من قبل الجزائر كعقبة أمام أي تقارب، باعتبارها الداعم الأساسي لجبهة البوليساريو التي تطالب بتنظيم استفتاء لتقرير المصير في الإقليم المتنازع عليه.
*هل ترد الجزائر؟*
منذ إعلان الجزائر قطع علاقاتها مع المغرب، التزمت الصمت إزاء معظم الدعوات التي وجهها الملك محمد السادس سابقًا لاستئناف الحوار، وعلى الرغم من التأكيد الرسمي الجزائري على عدم استهداف المواطنين المغاربة المقيمين على أراضيها أو العكس، فإن المؤشرات السياسية ظلت تميل إلى التصعيد، أو في أفضل الأحوال، إلى تثبيت الوضع الراهن.
لكن متغيرات الساحة الإقليمية والدولية، والضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها الجزائر، قد تدفعها إلى إعادة النظر في جدوى استمرار القطيعة، ويبدو أن الخطاب الملكي ترك نافذة مفتوحة، تنتظر فقط من يعبرها.
اختتم الملك خطابه بالتشديد على أن "الاتحاد المغاربي لا يمكن أن يتحقق دون انخراط المغرب والجزائر"، وهو تذكير بأهمية إحياء حلم الوحدة المغاربية الذي ظل معلقًا منذ عقود، بسبب خلافات ثنائية عطّلت كل مشاريع التكامل الاقتصادي والسياسي في المنطقة.