كارثة إنسانية مستمرة.. نصف مليون نازح يواجهون المجهول في غزة
كارثة إنسانية مستمرة.. نصف مليون نازح يواجهون المجهول في غزة

تتواصل الكارثة الإنسانية في قطاع غزة مع تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية وتحول المدينة إلى أطلال، صور الأقمار الصناعية كشفت عن أحياء محيت بالكامل من الخارطة، فيما تتدفق قوافل النازحين سيرًا على الأقدام أو بمركبات مكتظة نحو الجنوب، هربًا من القصف المتواصل وانعدام مقومات الحياة، أحياء مثل الشيخ رضوان والزيتون والشجاعية باتت عنوانًا للدمار الشامل، حيث اعتمد الجيش الإسرائيلي سياسة تفجير المباني السكنية بالجملة، ما دفع نصف مليون فلسطيني إلى النزوح القسري خلال أسابيع قليلة، ومع تفاقم أزمة المياه والغذاء، وتزايد الإصابات جراء القصف العشوائي، تحذر الأمم المتحدة من خطر تهجير دائم يرقى إلى مستوى "التطهير العرقي"، في المقابل، ترفض إسرائيل اتهاماتها بتدمير غزة عمدًا، مؤكدة أن هدفها محصور في القضاء على حركة حماس واستعادة الرهائن، المشهد المعقد يثير تساؤلات حول مآلات هذه الحرب ومصير مليون إنسان ما زالوا عالقين بين الموت والنزوح.
جرائم لا تتوقف
تعيش مدينة غزة واحدة من أحلك لحظاتها في تاريخها الحديث، مع استمرار الهجمات الإسرائيلية بوتيرة متصاعدة منذ أغسطس الماضي، مخلفة دمارًا هائلًا ونزوحًا جماعيًا غير مسبوق.
صور الأقمار الصناعية الأخيرة كشفت حجم الكارثة، إذ أظهرت أن مناطق بأكملها في الشيخ رضوان والزيتون والشجاعية تحولت إلى ساحات ركام.
منظمة بيانات مواقع وأحداث الصراعات المسلحة (ACLED) وثّقت أكثر من 170 عملية هدم ممنهجة منذ أوائل أغسطس، معظمها تم باستخدام تفجيرات محكمة استهدفت الأحياء الشرقية والمناطق المكتظة، في سياسة يصفها محللون بأنها أوسع نطاقًا من أي مرحلة سابقة في الحرب.
القصف لم يقتصر على الأبنية السكنية، بل طال شوارع رئيسية مثل شارع الجلاء والبحر، ما أعاق حركة النازحين وأطال أمد معاناتهم.
مراسلون ميدانيون أفادوا أن الجيش الإسرائيلي استخدم عربات مفخخة وطائرات مسيّرة لاستهداف شاحنات تقل عائلات كانت تحاول التوجه إلى منطقة المواصي، التي رغم كونها وجهة "آمنة" وفق الجيش، تفتقر إلى المياه والمأوى والغذاء، ما يجعلها فخًا إنسانيًا أكثر منها ملاذًا.
تدهور وأزمات
تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أن أكثر من 480 ألف شخص اضطروا لمغادرة مدينة غزة منذ بداية العملية العسكرية الأخيرة، أي ما يقارب نصف سكانها قبل الحرب، بينما ما زال نحو نصف مليون آخرين محاصرين في مناطق مهددة بالقصف.
المشاهد المؤلمة للنازحين، وهم يسيرون على الطرق الساحلية محملين بما تيسر من أمتعة، تلخص مأساة نزوح جماعي قد يكون الأطول في تاريخ الصراع الفلسطيني-والإسرائيلي منذ نكبة 1948.
الأوضاع الإنسانية تتدهور بسرعة، حيث حذرت بلدية غزة من أزمة عطش كارثية مع تراجع مخزون المياه المتاحة إلى أقل من ربع الاحتياجات اليومية.
والمخاطر البيئية تتضاعف مع تعطل شبكات الصرف الصحي وتراكم النفايات، ما يهدد بانتشار الأمراض الوبائية، المراكز الطبية بدورها تعمل بأقل من طاقتها نتيجة نقص الوقود والإمدادات، ما يجعل تقديم الرعاية الصحية شبه مستحيل لآلاف الجرحى والمرضى.
الموت يلاحقنا
يقول خالد المصري، 44 عامًا، فلسطيني، "لم نعد نستطيع المواصلة، النزوح يقتلنا وأطفالنا ببطء، غادرنا بيتنا في حي الشجاعية قبل أسبوعين بعد أن أصبح ركامًا، وحملنا ما استطعنا من ملابس وأوراق الهويّة، وسرنا على الأقدام حتى وصلنا إلى المواصي. الطريق كان مليئًا بالنازحين مثلي، نساء يحملن أطفالهن على الأكتاف، ورجال يجرّون عربات صغيرة فيها بقايا منازلهم، لا ماء يكفينا ولا طعام، والأطفال ينامون على الأرض بلا أغطية.
وتابع خالد، في حديثه لـ"العرب مباشر": نسمع الطائرات فوقنا طوال الليل، نخاف أن نصبح هدفًا في أي لحظة، فقدت جيراني في قصف استهدفهم على الطريق الساحلي، ومنذ ذلك الحين أشعر أن الموت يلاحقنا أينما ذهبنا. أحلم فقط أن أرى أطفالي يأكلون وجبة مشبعة وأنام ليلة واحدة دون خوف. النزوح لم يعد مجرد انتقال من مكان لآخر، بل هو عذاب يومي يحرمنا من أبسط مقومات الحياة".
في السياق ذاته، يقول علاء نوفل، 41 عامًا، فلسطيني من جباليا، النزوح هذه المرة أصعب من كل ما سبق، لم نعد نملك أي خيار سوى المغادرة، قبل ثلاثة أيام فقط كانت مجتمعًا مع عائلتي نساعد بعضنا في توفير الطعام والمياه، ثم تلقينا منشورات تدعو للإخلاء فورًا، لم نجد وسيلة نقل فمشينا على الأقدام باتجاه الجنوب، حملت زوجتي حقيبة صغيرة فيها بعض الخبز وأوراق الهوية، بينما كنت أجرّ ابني المصاب الذي لا يستطيع السير جيدًا بعد إصابته في قصف سابق.
ويضيف علاء لـ"العرب مباشر"، "الطريق كان أشبه بممر موت، قصف متقطع، طائرات مسيّرة تحوم فوقنا، وأصوات استغاثة من العالقين، رأيت عائلة بأكملها تصاب بشظايا قرب مفترق الكرامة ولم نتمكن من مساعدتهم، وصلنا إلى المواصي منهكين، لكن المعاناة لم تنتهِ، لا ماء، لا خيام كافية، والمرض ينتشر بسرعة بين الأطفال، أشعر أننا نعيش تهجيرًا دائمًا هذه المرة، وكأن غزة تُفرغ من سكانها أمام أعين العالم.
تطهير عرقي
على المستوى الدولي، تصاعدت الأصوات المحذرة من خطر التهجير القسري، مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وصفت ما يحدث بأنه قد يرقى إلى "تطهير عرقي"، فيما دعت منظمات حقوقية إلى تدخل عاجل لوقف الهجمات واستئناف المساعدات الإنسانية.
غير أن إسرائيل ترفض هذه الاتهامات، مؤكدة أن هدفها "تدمير حماس لا تدمير غزة"، متهمة الحركة باستخدام المدنيين كدروع بشرية وزرع الألغام داخل المباني السكنية.
وسط هذه المعطيات، تبدو المدينة على حافة كارثة إنسانية طويلة الأمد، مع غياب أي أفق سياسي يلوح في الأفق لحل الأزمة.
النزوح القسري الجماعي، الدمار الواسع، والانهيار الكامل للبنية التحتية قد يعيد تشكيل الخريطة الديمغرافية لقطاع غزة لعقود مقبلة، ما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الصراع.