قبور بلا أسماء.. عملية نقل الأتربة كيف دفن نظام الأسد جثث ضحاياه مرتين؟
قبور بلا أسماء.. عملية نقل الأتربة كيف دفن نظام الأسد جثث ضحاياه مرتين؟

في قلب الصحراء السورية القاحلة، وعلى أطراف بلدة الضمير، تختبئ فصول مأساة أخرى من فصول الحرب التي التهمت البلاد لعقدٍ من الزمن، هناك، بعيدًا عن ضجيج المدن وشهادات الناجين، تمتد خنادق صامتة بطول كيلومترين، تضم تحت رمالها عشرات الآلاف من الجثث التي نُقلت سرًا من مقبرة القطيفة، إحدى أكبر المقابر الجماعية في سوريا.
تحقيقات متعددة، وشهادات لمسؤولين وعسكريين سابقين، كشفت أن حكومة بشار الأسد السابقة نفذت بين عامي 2019 و2021 ما عُرف بـ"عملية نقل الأتربة"، في مهمة هدفها إخفاء أدلة دامغة على جرائم الحرب وتطهير المشهد قبيل مساعٍ لاستعادة الاعتراف الدولي، وبينما يسدل الليل ستاره على رمال الصحراء، تبقى الرائحة الثقيلة للموت شاهدة على واحدة من أكثر حلقات الإبادة إيلامًا في الذاكرة السورية الحديثة.
نقل الأتربة
تؤكد شهادات مسؤولين سوريين ومصادر ميدانية، إضافة إلى صور الأقمار الصناعية التي حللتها وكالات دولية، أن النظام السوري السابق نفذ عملية معقدة على مدى عامين لنقل آلاف الجثث من مقبرة القطيفة، الواقعة شمال شرق دمشق، إلى موقع سري في صحراء الضمير، كانت العملية تتم ليلاً، بعيدًا عن أعين السكان، تحت إشراف وحدات عسكرية وأمنية خاصة.
أُطلق على العملية اسم رمزي هو "نقل الأتربة"، لكنها لم تكن تتعلق بالتراب بقدر ما كانت محاولة لدفن الأدلة، وتطهير المساحات التي تحولت إلى شاهد دامغ على فظائع الحرب.
بين عامي 2019 و2021، كانت ما بين ست وثماني شاحنات ضخمة تتحرك أسبوعيًا، محملة برفات بشرية وطبقات من التراب، لتقطع مسافة تزيد عن خمسين كيلومترًا إلى موقعها الجديد، وفقًا لـ"رويترز".
شهادات مرعبة
وفق شهادات سائقين وفنيين وضابط من الحرس الجمهوري، كان المشاركون في العملية يعيشون رعبًا يوميًا من انكشاف السر، أحد السائقين قال لوكالة رويترز: "مجرد الحديث عن ما نراه كان يعني الموت، كنا نعلم أن مخالفة الأوامر ستقودنا إلى نفس الحفر".
وبحسب التحقيق، فإن موقع المقبرة الجديدة في صحراء الضمير يضم نحو 34 خندقًا جماعيًا، تمتد لمسافة تقارب كيلومترين، ما يجعلها من أوسع المقابر التي أُنشئت خلال سنوات الحرب السورية.
وتشير الأدلة إلى أن الجثث تعود لسجناء سياسيين وعسكريين ومعتقلين قضوا في سجون النظام ومستشفياته العسكرية، خلال حملات القمع التي رافقت انتفاضة 2011 وما تلاها.
يقول ضابط سابق في الحرس الجمهوري: إن فكرة نقل الجثث ظهرت في أواخر 2018، حين بدأ الأسد يتحدث عن "مرحلة ما بعد الحرب" وسعيه لإعادة تطبيع العلاقات الدولية.
كان الهدف، بحسب الضابط، "محو آثار الجرائم من حول دمشق"، وإزالة المواقع التي قد يستخدمها خصوم النظام كأدلة مستقبلية في المحاكم الدولية.
غير أن الرائحة التي ملأت الشاحنات والمسارات الترابية لم تكن لتُخفى بسهولة.
يروي أحد الفنيين، أن "رائحة التحلل كانت تسابق الهواء، وكان الجميع يضع كمامات مشبعة بالكحول، لكن لا شيء كان يمنع نفاذها إلى الصدور".
إعادة الرفات مستحيل
الناشطون السوريون الذين كشفوا المقبرة الأصلية في القطيفة عام 2014، كانوا قد حذروا منذ سنوات من محاولات السلطات طمس معالمها. ومع هذا الاكتشاف الجديد، تعود قضية المفقودين إلى الواجهة من جديد، لتفتح جرحًا لم يلتئم بعد في الوعي السوري الجمعي.
يقول محمد العبد الله، المدير التنفيذي للمركز السوري للعدالة والمساءلة: إن "نقل الجثث من مكان إلى آخر يعقّد مهمة التعرف على الضحايا، ويجعل من المستحيل تقريبًا إعادة رفاتهم إلى عائلاتهم".
وأضاف: أن ما جرى "ليس مجرد عملية لوجستية، بل جريمة ثانية بحق الضحايا، تُضاف إلى جريمة قتلهم الأصلية".
أما محمد رضا جلخي، رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين التابعة للحكومة السورية الانتقالية، فأشار إلى أن "التعامل مع هذا الملف يحتاج إلى موارد وتقنيات متقدمة في الطب الشرعي وتحليل الحمض النووي، وهي إمكانيات تفتقر إليها البلاد اليوم".
وتابع: "نحن نتحدث عن عشرات الآلاف من المفقودين، بعضهم لم يُسجّل أصلاً ضمن قوائم رسمية".
جرح وطني مفتوح
وفي الوقت نفسه، يرى رائد الصالح، وزير الطوارئ وإدارة الكوارث، أن "المقابر الجماعية ليست مجرد قضية جنائية، بل جرح وطني مفتوح ما دامت الأمهات يجهلن مصير أبنائهن، والزوجات ينتظرن قبور أزواجهن".
ويؤكد خبراء في القانون الدولي، أن عمليات كهذه – إذا ما ثبتت بالأدلة الكافية – يمكن أن تُعدّ محاولة ممنهجة لطمس جرائم حرب، وهو ما يعزز المطالبات الدولية بإجراء تحقيقات مستقلة تشرف عليها الأمم المتحدة.
في النهاية، تظل "صحراء الضمير" شاهدًا صامتًا على ما حاولت السلطة دفنه إلى الأبد. فحتى وإن تلاشت معالم المقابر تحت الرمال، فإن شهادات المشاركين وصور الأقمار الصناعية والذاكرة الجمعية للشعب السوري تضمن أن الحكاية لن تُطمر بالكامل. فثمة دومًا من يبحث عن الحقيقة، ومن يصر على أن العدالة، وإن تأخرت، لا تموت.