غزة.. موت ينتظر تحت الركام.. تحذيرات أممية من قنابل نائمة تهدد الناجين
غزة.. موت ينتظر تحت الركام.. تحذيرات أممية من قنابل نائمة تهدد الناجين

بين أنقاض غزة، لا تنتهي الحرب بانتهاء القصف، بل تبدأ فصولها الصامتة بخطر آخر يتربص بالأحياء وهو الذخائر غير المنفجرة، تلك القنابل المدفونة في الركام، التي لم تُطلق بعد نيرانها، تحولت إلى شبح يطارد آلاف العائدين إلى بيوتهم المهدّمة، وتهديد يومي يحاصر عمال الإغاثة والمهندسين والمسعفين، التحذيرات الأممية تتصاعد، والمنظمات الإنسانية تدق ناقوس الخطر من "كارثة ثانية" قد تكون أكثر خفاءً ولكن لا تقل فتكًا، ومع استمرار القيود على دخول معدات إزالة الألغام، تبقى غزة اليوم ميدانًا مفتوحًا للموت المؤجل، تقرير "هانديكاب إنترناشونال" الأخير يكشف عن أرقام مرعبة، تؤكد أن ما سقط على القطاع منذ الحرب يعادل سبعين ألف طن من المتفجرات، كثير منها لم ينفجر بعد، ومع توقف العمليات العسكرية مؤقتًا، يواجه القطاع معركة جديدة معركة تطهير الأرض من إرث النار والحديد.
قيود إسرائيلية تعرقل جهود التطهير
منذ أن هدأت أصوات المدافع وارتفعت سحب الغبار عن غزة، تتكشف يومًا بعد يوم ملامح كارثة من نوع آخر، لا تُرى بالعين المجردة ولكنها تزرع الموت في كل خطوة.
فالقنابل التي لم تنفجر خلال الحرب الأخيرة باتت اليوم عقبة أمام عودة الحياة، وتهديدًا متربصًا بكل من يحاول إعادة البناء أو حتى السير في الشوارع المدمرة.
في تقرير جديد صدر الثلاثاء، حذّرت منظمة "هانديكاب إنترناشونال" من أن الذخائر غير المنفجرة تمثل خطرًا "هائلًا وبالغًا" على المدنيين العائدين إلى ديارهم.
وأوضحت مديرة المنظمة في الأراضي الفلسطينية، آن-كلير يعيش، أن حجم المتفجرات التي أمطرت بها غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 يُقدّر بنحو 70 ألف طن، وهو رقم يعادل أكثر من خمس قنابل نووية صغيرة من حيث القوة التدميرية.
وقالت "يعيش": إنّ غزة اليوم "أرض معقدة للغاية"، حيث تداخل الركام بالأحياء السكنية الضيقة، وأصبح من شبه المستحيل معرفة مواقع الذخائر التي لم تنفجر، خاصة في المناطق المكتظة التي تحولت إلى أطلال.
وأضافت: أن الكثافة العمرانية العالية تجعل عمليات المسح الميداني أشبه بالمجازفة، إذ "قد يؤدي خطأ بسيط إلى انفجار كارثي يودي بحياة العشرات".
إمكانات بسيطة
تؤكد الأمم المتحدة بدورها، أن الجهود الدولية لإزالة المتفجرات تواجه عراقيل كبيرة. فبحسب دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام (UNMAS)، لم يُسمح حتى الآن بإدخال المعدات المدرعة اللازمة لتنفيذ عمليات المسح الميداني بأمان.
وتشير الدائرة إلى أن ثلاث مركبات مصفحة ما تزال عالقة على الجانب الإسرائيلي من المعبر، بانتظار الإذن بالدخول، فيما يقتصر العمل داخل القطاع على عدد محدود من الفرق المحلية ذات الإمكانيات البسيطة.
وقال متحدث باسم UNMAS لوكالة الصحافة الفرنسية: إن القيود المفروضة خلال العامين الماضيين جعلت من المستحيل إجراء عمليات تقييم شاملة للتهديد، ما يعني أن "الصورة الكاملة لمستوى الخطر ما تزال غامضة".
ويُقدّر الخبراء، أن ما بين 5 و10 في المئة من الذخائر التي أُطلقت على غزة لم تنفجر، ما يعني أن آلاف القنابل ما تزال مطمورة في التربة أو تحت الأنقاض.
المساعدات الإنسانية في مواجهة الخطر
من جانب آخر، أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، أن فرق الإغاثة تحاول تقييم المخاطر على الطرق الرئيسية لتأمين ممرات آمنة للقوافل الإنسانية. إلا أن الإمكانيات تبقى محدودة للغاية، إذ لا تمتلك UNMAS سوى عدد قليل من المركبات المدرعة، ما يجعلها قادرة على إجراء عدد محدود من عمليات المسح يوميًا.
ويحذر مسؤولون أمميون من أن استمرار هذا الوضع يهدد بعرقلة جهود إعادة الإعمار وتوزيع المساعدات، بل وقد يؤدي إلى مزيد من الضحايا بين المدنيين والعمال على حد سواء. فالكثير من العائلات التي حاولت تنظيف بقايا منازلها أو البحث عن أغراضها القديمة تعرضت لانفجارات قاتلة نتيجة لمس أجسام غير معروفة ظنّوها آمنة.
معركة ما بعد الحرب
تبدو غزة اليوم كأنها ساحة حرب لم تغادرها النيران بعد، فالأرض مشبعة بالموت، والهواء مثقل برائحة البارود، وكل حجر قد يخفي تحته قنبلة لم تُفجّر بعد، ورغم وقف إطلاق النار الأخير، فإن التحدي الحقيقي يبدأ الآن: كيف يمكن إعادة بناء مدينة تعيش فوق "قنبلة موقوتة"؟
د. محمد المنجي أستاذ العلوم السياسية، أكد أن الوضع الحالي يشبه ما حدث في الموصل والفلوجة بعد الحرب على "داعش"، مضيفًا، أن عملية إزالة المتفجرات وقتها استغرق سنوات طويلة وكلف ملايين الدولارات.
وأضاف المنجي في حديثه لـ"العرب مباشر"، في حالة غزة، يتضاعف الخطر بسبب ضيق المساحة وارتفاع الكثافة السكانية، ما يجعل أي خطأ ميداني أكثر فتكًا.
وشدد المنجي على أن المجتمع الدولي أمام اختبار أخلاقي وإنساني حقيقي، فإزالة الذخائر ليست مجرد عمل تقني، بل شرط أساسي لعودة الحياة إلى طبيعتها، وإذا لم يتم السماح بإدخال المعدات والفرق المختصة، فإن المدنيين سيدفعون ثمن حرب لم تنتهِ بعد.
الوجه المظلم للحرب
في السياق ذاته، يرى الدكتور طارق فهمي، أن قضية الذخائر غير المنفجرة في غزة تمثل "الوجه المظلم للحرب" الذي سيطارد المنطقة لسنوات.
ويضيف: أن "إسرائيل تستخدم ملف المعدات كأداة ضغط سياسي، لأنها تدرك أن بقاء الذخائر في الأرض يعيق إعادة الإعمار ويزيد من اعتماد الفلسطينيين على المساعدات الخارجية".
ويشدد فهمي -في تصريحات لـ"العرب مباشر"-، على ضرورة أن تتبنى القاهرة والأمم المتحدة موقفًا أكثر صرامة لإدخال فرق نزع الألغام بأسرع وقت ممكن، لأن أي تأخير "سيحول القطاع إلى فخ إنساني يهدد جيلًا كاملًا من المدنيين".