من احتجاجات رقمية إلى ثورة سياسية.. نيبال بين غضب الشارع وصراع الكبار
من احتجاجات رقمية إلى ثورة سياسية.. نيبال بين غضب الشارع وصراع الكبار

لم تكن كاتماندو بحاجة إلى هزة أرضية طبيعية كي تتصدع أركانها السياسية؛ فقد تكفّل جيل الشباب، أو ما يُعرف بـ"الجيل Z"، بإشعال شرارة انتفاضة عاصفة بدأت من اعتراض على حظر وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها سرعان ما تحولت إلى ثورة ضد الفساد المستشري والنخب الحاكمة. خلال أيام قليلة، انقلب المشهد رأسًا على عقب، سقط رئيس الوزراء كيه بي شارما أولي، تهاوت شرعية النظام، وتحوّلت الشوارع إلى ساحات صدام عنيف أودى بحياة العشرات. ومع فرار قادة سياسيين إلى الخارج، بدا أن الغضب الشعبي لم يكن وليد لحظة، بل نتيجة تراكمات اقتصادية وسياسية عميقة، غير أن المشهد لا يقتصر على بعده الداخلي، فكل مؤشر يُلمّح إلى أن نيبال دخلت دائرة تنافس دولي محتدم، حيث تتقاطع مصالح الولايات المتحدة والصين في بلد صغير محاصر بين الهند والهملايا، لكنه بات اليوم نقطة ارتكاز جديدة في لعبة النفوذ الكبرى بجنوب آسيا.
جذور الأزمة الداخلية
الاحتجاجات التي اجتاحت نيبال لم تكن مجرد رد فعل عابر على حجب التطبيقات، بل جاءت نتيجة سنوات طويلة من الإحباط الشعبي، فمنذ إعلان الجمهورية عام 2008، شهدت البلاد أربعة عشر حكومة متعاقبة، أغلبها ائتلافية ومثقلة بصراعات داخلية واتهامات فساد.
هذه الهشاشة السياسية زرعت شعورًا بالخذلان في أوساط الشباب الذين يشكلون أكثر من نصف سكان البلاد، حيث ارتفعت معدلات البطالة وتباطأ النمو الاقتصادي، فيما استأثر السياسيون وأبناؤهم بحياة مترفة استفزت الشارع.
الحملة الإلكترونية التي قادتها مجموعات شبابية قبل أسابيع تحت عنوان "أطفال النيباليين"، ركّزت على فضح أسلوب الحياة الفاخر لأبناء المسؤولين.
هذه الشرارة عززت الاحتقان، وحين فرضت الحكومة قرار حجب وسائل التواصل، بدا وكأنه القشة التي قصمت ظهر البعير.
فاندلعت المظاهرات العارمة التي سرعان ما اتخذت طابعًا ثوريًا، ورفعت شعارات تطالب برحيل الحكومة وإعادة النظر في النظام السياسي برمّته، بل وحتى بعودة النظام الملكي.
سيناريو مألوف في جنوب آسيا
لم يكن ما جرى في نيبال معزولًا عن محيطه الإقليمي، فخلال السنوات الثلاث الماضية، شهدت جنوب آسيا سلسلة أزمات مشابهة، ففي سريلانكا عام 2022، أطاحت المظاهرات الشعبية بالرئيس غوتابايا راجاباكسا بعد انهيار اقتصادي حاد.
وفي باكستان، انتهت أزمة سياسية بإقالة رئيس الوزراء عمران خان، أما بنغلاديش، فشهدت العام الماضي اضطرابات واسعة أدت إلى سقوط حكومة الشيخة حسينة وسط اتهامات بفساد واستبداد.
هذا النمط المتكرر يوحي بأن الاحتجاجات الشبابية لم تعد حركات احتجاجية عابرة، بل باتت أداة تغيير جذري للأنظمة، وهو ما يجعل مراقبين يرون في نيبال امتدادًا لسلسلة ثورات شبابية تضرب المنطقة، تلتقي عند خطوط الفساد، وتتشابك مع أبعاد جيوسياسية معقدة.
أصابع خارجية
مع تصاعد حدة الاحتجاجات واستقالة أولي والرئيس رامشاندرا بوديل، بدأ الجدل حول دور القوى الخارجية في تغذية الأزمة، فرغم رفع الحكومة حظر وسائل التواصل الاجتماعي، استمرت الاحتجاجات؛ وشهدت العاصمة هتافات مثل: "أولي لص، غادر البلاد"، أقدم المحتجون اليوم الثلاثاء، على تخريب وإحراق مساكن الرئيس رامشاندرا بوديل، ورئيس الوزراء أولي، وعدد من الوزراء الآخرين؛ كما أُضرمت النيران في فندق هيلتون في كاتماندو، المملوك لأحد قادة الحزب الحاكم.
السبب خلف اتهام أصابع خارجية بالتسبب فيما يحدث يبدأ من الصين، التي سعت لتعزيز حضورها عبر مبادرة "الحزام والطريق"، ضخت مساعدات مالية في نيبال، في المقابل، ضاعفت الولايات المتحدة دعمها عبر برنامج "تحدي الألفية"، مقدمة نصف مليار دولار لمشاريع الطاقة والبنية التحتية.
هذا التنافس المالي والسياسي جعل نيبال في مرمى صراع النفوذ، مشاركة أولي في احتفالات "يوم النصر" الصيني اعتُبرت دليلاً على انحيازه لبكين، وهو ما أثار مخاوف واشنطن، ومع سقوط حكومته، ترددت تحليلات تعتبر أن واشنطن تحاول هندسة تغيير سياسي في كاتماندو، على غرار ما يُتهم به في بنغلاديش وباكستان.
ارتباك داخلي وتحديات مستقبلية
البلاد الآن في حالة فراغ سياسي، مع غياب قيادة واضحة وتراجع ثقة الشارع في جميع الأحزاب التقليدية، الدعوات المتزايدة لعودة الملكية تكشف مدى يأس المواطنين من تجربة الجمهورية العلمانية التي لم تحقق الاستقرار المنشود.
التحدي الأكبر يكمن في أن الاحتجاجات لم تفرز قيادة جديدة متفقًا عليها، بل تركت فراغًا قد تستغله القوى الخارجية لترجيح كفة نفوذها.
إضافة إلى ذلك، تقف نيبال أمام تحديات اقتصادية ضخمة، ديون متراكمة، بطالة متفشية، واعتماد شبه كامل على المساعدات الخارجية، ومع تصاعد التوتر بين الهند والصين من جهة، والولايات المتحدة والصين من جهة أخرى، تبدو نيبال ساحة مفتوحة أمام تنافس إقليمي ودولي قد يحدد مستقبلها لعقود قادمة.