بين غواصات ترامب و آلة يوم القيامة الروسية.. لعبة الردع النووي تهدد العالم
بين غواصات ترامب و آلة يوم القيامة الروسية.. لعبة الردع النووي تهدد العالم

في مشهد يعيد أصداء الحرب الباردة إلى القرن الحادي والعشرين، عاد شبح الصدام النووي ليخيّم على العالم مع تصاعد المواجهة الكلامية بين واشنطن وموسكو، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي بدأ ولايته بخطاب ودي تجاه روسيا، وجد نفسه الآن في قلب أزمة غير مسبوقة منذ عقود، بعدما ردّ على تصريحات نارية لنائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري مدفيديف بإصدار أوامر بإعادة تمركز غواصات نووية أمريكية قرب المياه الروسية.
التحركات الأمريكية المفاجئة، واللغة الروسية المشحونة، أيقظت من جديد فكرة "آلة يوم القيامة" التي طالما اعتبرها العالم أسطورة من الماضي، لكن اليوم، ومع دخول هذه الأسلحة والمفاهيم إلى صلب التهديدات العلنية، بات السؤال، هل ما نشهده مجرد لعبة ردع متبادلة، أم أن الطرفين يسيران بالفعل نحو مواجهة تخرج عن السيطرة وتفتح الباب أمام سيناريوهات كارثية لا يعرف أحد أين تنتهي؟
من لغة الدبلوماسية إلى حافة التهديد النووي
بدأت ملامح الأزمة الحالية عندما وجّه ترامب إنذارًا صريحًا إلى موسكو لوقف عملياتها العسكرية في أوكرانيا، مانحًا الروس مهلة 50 يومًا قبل فرض عقوبات اقتصادية "غير مسبوقة".
لكن سرعان ما تقلّصت المهلة إلى عشرة أيام فقط، وهو ما اعتبرته موسكو إشارة على تحول لغة البيت الأبيض من المهادنة إلى المواجهة المباشرة.
الرد الروسي لم يأتِ من الرئيس فلاديمير بوتين، بل من ديمتري مدفيديف، الرئيس السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي، الذي هاجم تصريحات ترامب معتبرًا أنها "إعلان حرب ضمني"، مؤكّدًا أن روسيا ليست "إسرائيل أو إيران" حتى تقبل الإملاءات الأمريكية.
وجاء رد ترامب سريعًا، محذرًا مدفيديف من أنه "يدخل منطقة خطيرة"، قبل أن يعلن عن نشر غواصتين نوويتين في مناطق قريبة من الحدود الروسية.
الغواصات النووية.. أداة الردع الصامتة
لم يوضح ترامب نوع الغواصات أو مواقعها بدقة، التزامًا بالسرية العسكرية، لكن المعروف أن البحرية الأمريكية تملك ثلاثة أصناف رئيسية من الغواصات النووية، الأولى، غواصات الصواريخ الباليستية (SSBNs) العمود الفقري للردع النووي الأمريكي، مثل غواصات "أوهايو" القادرة على إطلاق 20 صاروخ "ترايدنت" بعيد المدى، كل منها برؤوس نووية متعددة يمكنها ضرب أهداف داخل روسيا من مسافات شاسعة.
والثانية هي غواصات الصواريخ الموجهة (SSGNs)، مزودة بصواريخ "توماهوك" بمدى يصل إلى 1600 كيلومتر، وتستخدم غالبًا لإرسال رسائل سياسية في مناطق التوتر، أما الثالثة فهي غواصات الهجوم السريع، الأكثر عددًا ومرونة، مهيأة لتعقب وتدمير الغواصات والسفن المعادية، وتتميز بقدرات تجسسية متقدمة، هذه التحركات البحرية تحمل رسائل مزدوجة: إظهار الاستعداد العسكري، وفرض ضغط نفسي على القيادة الروسية التي تدرك أن هذه القطع قادرة على توجيه ضربات دقيقة حتى في حال اندلاع مواجهة شاملة.
اليد الميتة.. سلاح الرد الأخير
تصريحات مدفيديف عن "اليد الميتة" أعادت إلى الواجهة نظام "بريميتر" السوفيتي، الذي طور في ثمانينيات القرن الماضي ليضمن الرد النووي حتى إذا دُمرت القيادة الروسية بالكامل.
النظام يعتمد على شبكة حساسات ترصد الانفجارات النووية والإشعاع وانقطاع الاتصالات، ليطلق تلقائيًا مئات الصواريخ العابرة للقارات نحو أهداف معادية.
هذا النظام، الذي اختبر عام 1984 ودخل الخدمة عام 1989، لا يحتاج لقرار بشري في لحظة التنفيذ، ما يجعله أخطر ما أنتجته الحرب الباردة.
ومع تعديل بوتين للعقيدة النووية عام 2024 لتشمل إمكانية استخدام الأسلحة النووية في حال التهديد، صار "بريميتر" أكثر حضورًا في المعادلة الاستراتيجية الحالية.
مناورة سياسية أم تصعيد حقيقي؟
صحيفة وول ستريت جورنال اعتبرت تحريك الغواصات الأمريكية رسالة ردع تهدف إلى اختبار أعصاب الكرملين، لكنها حذّرت من أن سياسة ترامب القائمة على "نظرية الجنون" قد تفقد فعاليتها إذا تحولت إلى تهديدات مفتوحة.
في المقابل، رأت شبكة "سي إن إن" أن ترامب ارتكب خطأً حين ردّ على تصريح مدفيديف غير الرسمي بتحريك وحدات استراتيجية، ما منحه مظهر الارتباك السياسي.
التحليلات تجمع على أن فرص اندلاع مواجهة نووية فورية تبقى ضئيلة، لكن خطورة الموقف تكمن في احتمالية سوء الفهم أو الخطأ في التقدير، وهي عوامل لطالما كانت شرارات لكوارث تاريخية.
الخط الأحمر
من جانبه، يرى د. طارق فهمي أستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية، أن التصعيد الأخير بين الولايات المتحدة وروسيا لا يمكن قراءته بمعزل عن طبيعة التحولات في النظام الدولي، حيث يسعى كل طرف إلى تثبيت موقعه في معادلة الردع الاستراتيجي.
ويؤكد أن خطوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعادة تمركز الغواصات النووية قرب روسيا تمثل رسالة مزدوجة: الأولى للكرملين بأنه مستعد لاستخدام أدوات الردع القصوى إذا لزم الأمر، والثانية لحلفاء واشنطن لطمأنتهم على التزام الولايات المتحدة بحمايتهم في وجه أي تهديد.
ويضيف فهمي في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن موسكو بدورها استثمرت في التصعيد الإعلامي عبر تصريحات ديمتري مدفيديف عن "اليد الميتة"، لإعادة التذكير بامتلاكها أدوات رد نووي تلقائي، وهو ما يرفع مستوى المخاطر النفسية والسياسية على الطرف الآخر، لكنه حذر من أن مثل هذه المناورات، رغم كونها مدروسة في الغالب، تحمل دائمًا احتمالية الانزلاق إلى مواجهة حقيقية في حال سوء التقدير أو حدوث خطأ تقني.
ويخلص إلى أن المشهد الحالي يضع العلاقات الأمريكية الروسية أمام اختبار صعب، حيث سيكون ضبط إيقاع التصعيد هو التحدي الأكبر لتجنب عبور "الخط الأحمر" نحو مواجهة كارثية.