حصار من الداخل.. كيف صنع الحوثيون مجاعة تلتهم نصف اليمن؟
حصار من الداخل.. كيف صنع الحوثيون مجاعة تلتهم نصف اليمن؟
في الوقت الذي تتراجع فيه أصوات المدافع على أطراف الجبهات اليمنية، ترتفع صرخات الجوع في قلب المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، حيث تتسارع مؤشرات الانهيار الإنساني بوتيرة تنذر بكارثة شاملة، فقد توقفت أكبر مطاحن القمح في البلاد عن العمل بعد نفاد مخزونها، بينما تُغلق الموانئ على البحر الأحمر أبوابها أمام شحنات الغذاء بفعل قرارات سياسية وتعقيدات عسكرية، ومع انسحاب الأمم المتحدة وتقليص وجودها الإغاثي إلى أدنى مستوياته منذ عقود، تبدو البلاد أمام مشهد مأساوي يتجاوز حدود الأزمة الاقتصادية نحو ما يشبه المجاعة المنظمة، حيث يتسبب تحكم الحوثيين في مفاصل الاقتصاد الإنساني، من القمح إلى المساعدات، في تهديد نصف سكان اليمن بالهلاك البطيء وسط صمت دولي لا يقل فتكًا من الجوع ذاته.
مجاعة تطرق الأبواب
تعيش مناطق سيطرة الحوثيين في شمال وغرب اليمن حالة اختناق غذائي غير مسبوقة، بعد أن أعلنت شركة "المحسن"، المالكة لأكبر مطاحن القمح في البلاد، توقف العمل كليًا نتيجة نفاد مخزونها، في ظل رفض سلطات الحوثيين السماح بدخول شحنات جديدة عبر موانئ الحديدة والصليف.
هذا التوقف المفاجئ، وفق مصادر تجارية في صنعاء، يهدد بشلل كامل في إنتاج الدقيق ويُنذر بانقطاع الطحين عن الأسواق المحلية، وهو ما يعني فعليًا أن ملايين اليمنيين باتوا على بعد أيام فقط من أزمة خبز حادة، في بلد يعتمد فيه أكثر من 70% من السكان على المساعدات الإنسانية لتأمين قوتهم اليومي.
في رسالتها الموجهة إلى وزارة الاقتصاد الحوثية غير المعترف بها دوليًا، أكدت إدارة مطاحن البحر الأحمر أنها حذرت مسبقًا من نفاد مخزون القمح، لكنها لم تتلق أي استجابة، لتعلن رسميًا إخلاء مسؤوليتها عن أي اضطراب في السوق. وتقول مصادر اقتصادية إن قرار الحوثيين بعدم السماح بإدخال القمح الجديد يأتي في إطار سياسة داخلية أطلقت عليها الجماعة "الاكتفاء الذاتي"، رغم أن الإنتاج المحلي لا يغطي سوى 4% من احتياجات البلاد.
ويُنظر إلى هذه السياسة على أنها محاولة جديدة لتعزيز القبضة الاقتصادية للجماعة على تجارة الغذاء، حتى وإن كان الثمن هو تجويع السكان.
الاحتكار تحت غطاء الإغاثة
منذ عام 2017، تحوّل ملف استيراد وتوزيع القمح في مناطق الحوثيين إلى نشاط اقتصادي مغلق تهيمن عليه شبكة ضيقة من رجال الأعمال المرتبطين بقيادات الجماعة، أبرزهم أحمد الهادي، الذي استأجر مطاحن البحر الأحمر في الحديدة، ليصبح لاحقًا أحد أبرز أذرع الحوثيين الاقتصادية.
وبحسب مصادر حكومية يمنية، فإن الهادي الذي أدرجته الولايات المتحدة على قائمة العقوبات، استغل موقعه للسيطرة على معظم كميات القمح المستوردة ضمن برامج الأمم المتحدة للإغاثة، حيث كان يطحنها ويعيد تعبئتها ثم يوزعها في الأسواق بإشراف مباشر من سلطات صنعاء، هذا الاحتكار لم يقتصر على القمح فحسب، بل شمل أيضًا الخدمات اللوجستية للمنظمات الإنسانية، ما مكّنه من التحكم في خطوط الإمداد الرئيسية للمساعدات.
ويرى مسؤولون يمنيون، أن هذا الوضع كشف إخفاقًا واضحًا للأمم المتحدة في فرض آليات شفافة لتوزيع المساعدات، بعدما تحولت الإغاثة إلى أداة سياسية بيد الجماعة، تستخدمها لمعاقبة خصومها وشراء الولاءات داخل المجتمع، ويقول أحدهم إن “الهادي اليوم لا يتحكم فقط في رغيف الخبز، بل في إيقاع الحياة الاقتصادية داخل مناطق الحوثيين”.

انهيار الموانئ.. أرقام صادمة
تقرير حديث لبرنامج الأغذية العالمي كشف أن موانئ البحر الأحمر الخاضعة للحوثيين شهدت تراجعًا حادًا في واردات الغذاء والوقود خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري، بانخفاض تجاوز 22% مقارنة بالعام الماضي.
وأرجع التقرير هذا التراجع إلى الأضرار الكبيرة التي لحقت بالبنية التحتية للموانئ جراء الغارات الإسرائيلية والأميركية الأخيرة، إضافة إلى القيود الإدارية التي فرضتها سلطات الحوثيين.
ووفق التقرير، بلغ إجمالي الواردات الغذائية نحو 2.6 مليون طن متري فقط، ما يعكس ضعف القدرة التشغيلية للموانئ، ويُفاقم العجز في السوق المحلي، حيث باتت معظم الأسر تعيش على وجبة واحدة يوميًا أو أقل.
الأزمة تفاقمت أكثر بعد أن قررت الأمم المتحدة تقليص وجودها في مناطق الحوثيين إلى ثلاثة موظفين فقط، في خطوة هي الأدنى منذ ثلاثة عقود.
القرار جاء عقب سلسلة اعتقالات طالت 53 موظفًا محليًا من العاملين في وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، إلى جانب اقتحام الحوثيين لمجمع أممي في صنعاء واتهام العاملين فيه بالتجسس لصالح إسرائيل والولايات المتحدة، وهي تهم نفتها المنظمة الدولية بشكل قاطع.
ويحذر مراقبون من أن هذا الانسحاب الأممي سيشلّ بالكامل عمليات الإغاثة التي كانت تمثل شريان الحياة الوحيد لملايين اليمنيين، خاصة في محافظات الحديدة وصعدة وحجة، حيث ترتفع معدلات الفقر إلى مستويات قياسية.

العرب مباشر
الكلمات