السباق الانتخابي العراقي تحت مقصّ الأمن.. خطوة للشرعية أم هندسة سياسية.. خبراء يُجيبون

السباق الانتخابي العراقي تحت مقصّ الأمن.. خطوة للشرعية أم هندسة سياسية.. خبراء يُجيبون

السباق الانتخابي العراقي تحت مقصّ الأمن.. خطوة للشرعية أم هندسة سياسية.. خبراء يُجيبون
العراق

يشهد المشهد السياسي العراقي توترًا متصاعدًا مع اقتراب الانتخابات البرلمانية المقررة في نوفمبر المقبل، بعد قرار استبعاد أكثر من مائة مرشح بتهم تتعلق بالارتباط بفصائل مسلحة أو بملفات فساد وسوء السلوك. القرار، الذي استند إلى توصيات أجهزة أمنية وقضائية، أثار جدلًا واسعًا حول قانونيته وشفافيته، إذ يرى البعض فيه محاولة لتصحيح مسار العملية السياسية وإغلاق الباب أمام الميليشيات التي تمددت في مفاصل الدولة، فيما يراه آخرون خطوة انتقائية ذات دوافع سياسية تستهدف إضعاف قوى بعينها. هذا التطور يعيد إلى الواجهة أسئلة قديمة حول قدرة العراق على تنظيم انتخابات نزيهة تعكس إرادة الناخب بعيدًا عن نفوذ السلاح والمال السياسي، كما يضع المفوضية العليا للانتخابات تحت مجهر الرأي العام، في اختبار جديد يتعلق بمدى استقلاليتها وصمودها أمام الضغوط الداخلية والخارجية.

استبعاد غير مسبوق


كشف مصدر سياسي لوسائل اعلام عراقية محلية، أن الجهات الأمنية والقضائية رفعت تقارير مفصلة إلى المفوضية العليا للانتخابات تتضمن توصيات باستبعاد أكثر من مائة مرشح من السباق الانتخابي.


الاستبعاد تم تمريره قانونيًا عبر اتهامات متنوعة مثل الفساد، وسوء السيرة والسلوك، والأحكام الجنائية السابقة، غير أن المضمون الأعمق لهذه التقارير يشير إلى كون هؤلاء المرشحين مجرد واجهات سياسية أو مالية لفصائل مسلحة، ما يجعلهم في نظر السلطات غير مؤهلين للترشح.


لكن، وبحسب المصدر، لم تشمل القرارات جميع الأسماء المحسوبة على الميليشيات، إذ تمكنت بعض الشخصيات من تجاوز التدقيق بسبب غياب الأدلة الكافية أو نتيجة تفاهمات سياسية وضغوط مارسها أطراف نافذة، وهو ما يُثير شكوكًا بشأن انتقائية هذه الإجراءات.

جدل داخلي وضغوط خارجية


الخطوة أثارت عاصفة من الجدل السياسي والشعبي، فبينما أيدت قوى مدنية القرار باعتباره محاولة لإقصاء الميليشيات عن الحياة السياسية، اعتبرت قوى أخرى أن الاستبعاد يمثل شكلاً من "الهندسة الانتخابية" يستهدف إضعاف أحزاب بعينها، خصوصًا تلك المنضوية ضمن "الإطار التنسيقي".


مصادر سياسية كشفت أن ضغوطًا دولية، خاصة من الولايات المتحدة، أسهمت في الدفع نحو استبعاد الوجوه المرتبطة بالفصائل المسلحة. 


من جانبها، واشنطن كانت قد شددت مرارًا على ضرورة تحجيم نفوذ تلك المجموعات داخل العملية السياسية، معتبرة أن وجودها يُعطل بناء مؤسسات الدولة.

موقف المفوضية العليا


في مواجهة الاتهامات، أكدت المفوضية العليا للانتخابات أن جميع قراراتها تستند حصراً إلى إجابات جهات رسمية مختصة مثل وزارة الداخلية، وزارة الدفاع، جهاز المخابرات، جهاز الأمن الوطني، ومستشارية الأمن القومي، إضافة إلى مجلس القضاء الأعلى.


كما شددت على أن الاستبعاد يتم بقرار من مجلس المفوضين بعد مراجعة دقيقة، وأن كل القرارات قابلة للطعن خلال ثلاثة أيام أمام الهيئة القضائية للانتخابات، التي تعد قراراتها نهائية وملزمة.
إلا أن هذه التوضيحات لم توقف الشكوك، خصوصاً أن التاريخ السياسي العراقي عرف حالات مشابهة من الانتقائية، حيث استُخدمت قوانين المساءلة والعدالة أو ملفات الفساد أحياناً كأدوات لتصفية حسابات بين الخصوم السياسيين.

 

الأبعاد القانونية


قانونيًا، يرتكز الاستبعاد الأخير على نصوص واضحة. فالمادة (7/ ثالثًا) من قانون انتخابات مجلس النواب لعام 2018 المعدل تشترط "حسن السيرة والسلوك وألا يكون المرشح محكومًا بجناية أو جنحة مخلة بالشرف". كما أن قانون الأحزاب السياسية رقم 36 لسنة 2015 يحظر على الأحزاب امتلاك أجنحة عسكرية، بينما تنص المادة التاسعة من الدستور العراقي على منع تشكيل ميليشيات خارج إطار الدولة.


ورغم وضوح هذه النصوص، تبقى المعضلة في معيار "الارتباط بالفصائل المسلحة"، إذ يراه مراقبون فضفاضًا ويُترك لتقديرات سياسية وأمنية قد تُستغل بطرق انتقائية.

إعادة رسم الخريطة السياسية


يرى محللون أن استبعاد هذا العدد الكبير من المرشحين قد يغيّر بشكل ملموس تركيبة البرلمان المقبل. فبعض الأسماء التي شملها القرار مرتبطة بأحزاب قوية داخل "الإطار التنسيقي"، وهو ما قد يعيد توزيع المقاعد ويمنح فرصًا أكبر للقوى المدنية والمستقلين.


وفي المقابل، قد يُؤدي هذا الاستبعاد إلى تعزيز خطاب المظلومية لدى القوى المستهدفة، ما يزيد من احتمالات التصعيد السياسي وحتى الأمني، خصوصًا أن بعض الفصائل المسلحة تمتلك القدرة على التأثير الميداني إذا شعرت أن نفوذها مهدد.

ذاكرة الانتخابات العراقية


الانتخابات السابقة لم تخلُ من استبعادات مماثلة، لكنها غالباً ارتبطت بقانون المساءلة والعدالة ضد البعثيين أو بملفات فساد محدودة. ففي انتخابات 2018، شُطب عشرات المرشحين بسبب الانتماء إلى حزب البعث أو صدور أحكام قضائية بحقهم، بينما في 2021 اقتصرت قرارات الإبعاد على قلة من الأسماء التي لم تستوفِ الشروط القانونية.

الجديد هذه المرة هو الحجم الكبير غير المسبوق، والتأكيد على الارتباط بالفصائل المسلحة كسببٍ رئيسٍ.


يبقى العراق أمام معادلة صعبة: كيف يُمكن لمؤسساته أن تُطبق القوانين بصرامة دون أن تُتهم بالانتقائية؟ وكيف يُمكن أن تُجرى انتخابات نزيهة في ظل استمرار نفوذ السلاح؟ الإجابة عن هذه الأسئلة ستحدد ليس فقط شكل البرلمان المقبل، بل أيضًا مستقبل العملية الديمقراطية في العراق.


من جانبه، يقول، د. طارق الزبيدي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بغداد، لا يُمكن إنكار أن استبعاد هذا العدد الكبير من المرشحين خطوة غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات العراقية، وهي تعكس رغبة رسمية ـ وربما دولية ـ في تقليص نفوذ الميليشيات داخل العملية السياسية.


وأضاف الزبيدي - في حديثه لـ"العرب مباشر" - من هذه الزاوية، تبدو القرارات محاولة لتعزيز الشرعية وحماية المؤسسات من اختراق السلاح والمال غير المشروع، لكن في الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل أن آلية التنفيذ شابها الكثير من الغموض، إذ لم تُكشف للرأي العام تفاصيل الأدلة والملفات الأمنية، ما يفتح الباب واسعًا أمام اتهامات بانتقائية أو توظيف سياسي".


ويُضيف الزبيدي: "الإشكالية الحقيقية تكمن في أن العراق لم ينجح بعد في بناء منظومة انتخابية راسخة تحكمها قواعد موحدة لا تقبل التأويل، لذلك، فإن أي استبعاد، حتى وإن استند إلى نصوص قانونية، سيظل عرضة للتأويل بأنه جزء من هندسة سياسية تهدف إلى إعادة رسم التوازنات، مضيفًا أن القرار يحمل بعدين متوازيين: فهو من جهة يُعزز الشرعية بمنع تسلل الميليشيات، ومن جهة أخرى يُثير شكوكًا حول نزاهة العملية الانتخابية إذا لم يُدار بشفافية كاملة.