أجساد صغيرة تنهار.. المجاعة تفتك بأطفال غزة وسط صمت العالم
أجساد صغيرة تنهار.. المجاعة تفتك بأطفال غزة وسط صمت العالم

في غزة، بات الجوع سكينًا صامتًا ينحر أجساد الأطفال قبل الصواريخ والقنابل، لم يعد الموت ينتظر رصاصة بل يختبئ خلف لقمة مفقودة، وراء أنبوب تغذية هش، وعينين ذابلتين تترقبان شربة حليب أو قطعة خبز.
في هذا المشهد الذي تتشابك فيه المأساة مع العجز، يصارع الطفل خالد، ابن التسعة أشهر، من أجل البقاء بجسد لا يتجاوز وزنه نصف المعدل الطبيعي لعمره، لا تملك والدته سوى الانتظار، تراقب ابنها موصولًا بأنبوب، بينما بطون أشقائه الخاوية تنتظر في خيمة باردة على أطراف خان يونس، ومع دخول الحصار شهره الثالث، تحوّلت غزة إلى خريطة للجوع، تُغلق فيها أبواب المطابخ، وتُنهب المخازن، وتُغلق المستشفيات أبوابها أمام غير الحالات الحرجة، الأمم المتحدة تحذّر، ومنظمة الصحة العالمية تدق ناقوس الخطر، لكن لا أحد يستجيب، والمأساة تتوسع: مجاعة الأطفال في غزة لم تعد أزمة إنسانية فقط، بل وصمة عار على جبين العالم.
*ظروف غير إنسانية*
في إحدى غرف مستشفى ناصر جنوبي قطاع غزة، يُعالج الطفل خالد من سوء تغذية حاد أنهك جسده الصغير، بالكاد يبلغ وزنه 5 كيلوغرامات، أي ما يقارب نصف الوزن الطبيعي لطفل في عمره.
خالد ليس استثناءً في هذا القطاع المنكوب، بل مجرد نقطة في بحر من قصص الألم الذي يتسرب يوميًا من بين جدران المستشفيات المكتظة، والأسِرّة القليلة، وقوائم الانتظار الطويلة للأطفال الذين يتشبثون بالحياة وسط ظروف غير إنسانية
عندما قرر الأطباء إدخال خالد للمستشفى، كان قد قضى نصف حياته القصيرة يصارع الإسهال والجفاف.
في محاولة يائسة لإنقاذه، تم ربطه بأنبوب تغذية في يده اليسرى لتوصيل السائل الغذائي لجسده الهزيل. يتلقى حليبًا ومكملات غذائية كل ثلاث ساعات، لكن والدته تعلم أن هذا لا يكفي.
تقول لـ"أسوشيتد برس"، لو أعطوه كل ساعة لما اكتفى، لكنه ينتظر الوجبة بفارغ الصبر"، وتشير أن الكميات المخصصة للأطفال شحيحة بسبب نقص الإمدادات، نتيجة الإغلاق الإسرائيلي الذي يمنع دخول المواد الغذائية والدوائية إلى القطاع.
*حصار لا ينتهي*
ومع استمرار الحصار الذي فرضته إسرائيل منذ بداية مارس، وبدء العمليات العسكرية من جديد منتصف الشهر ذاته، بدأت مؤشرات المجاعة تلوح بوضوح في غزة، خصوصاً بين الأطفال.
وفقًا لـ"يونيسف"، فإن أكثر من 9000 طفل تلقوا علاجًا لسوء التغذية منذ بداية العام، منهم 3600 حالة في شهر مارس وحده، أي بزيادة قدرها 80٪ مقارنة بشهر فبراير، ومع تقلص الموارد وتوقف الإمدادات، يتوقع الخبراء تصاعد الأزمة بشكل أكبر.
تعيش عائلة خالد الآن في خيمة بمواصي خان يونس بعد نزوحها من رفح، أشقاؤه الأربعة، أحمد (7 سنوات) وماريا (4 سنوات) وغيرهما، يعانون بدورهم من أعراض سوء التغذية، يزن أحمد 8 كيلوغرامات فقط، فيما اختفت ملامح الطفولة عن وجه ماريا. لا يتلقون أي دعم غذائي لأن المراكز تقتصر على من هم دون السادسة، ومع إغلاق نصف هذه المراكز بسبب القصف والنزوح، ينهار النظام الغذائي بالكامل.
وفي خضم هذه الكارثة، يبرز مشهد المساعدة المجتمعية الذي بات هشًا ومتقطعًا. المطابخ الخيرية التي كانت تقدم الوجبات الأساسية أغلقت أبوابها.
الأراضي الزراعية أصبحت مناطق خطر، والمخابز توقفت عن العمل، والمياه انقطعت بسبب نقص الوقود، في مشاهد مأساوية، يتقاتل الناس أمام أبواب المساعدات النادرة، وتُنهب المستودعات التي ما زالت تحتوي على بعض المواد.
*التجويع سلاح حرب*
تتّهم المنظمات الإنسانية إسرائيل باستخدام "التجويع كسلاح حرب"، بينما ترفض الحكومة الإسرائيلية هذه الاتهامات وتصر على أن "المساعدات كافية"، رغم أن الإمدادات المتراكمة على الحدود لم يُسمح لها بالدخول.
العاملون في المجال الإنساني يدحضون الادعاءات الإسرائيلية، مؤكدين أن الأمم المتحدة تراقب التوزيع بشكل صارم، وأن الاتهامات بتحويل المساعدات إلى "حماس" غير مدعومة.
من جانبه، عبّر مايكل رايان، المدير التنفيذي للطوارئ في منظمة الصحة العالمية، عن الغضب قائلاً: "نحن نُحطم أجساد وعقول أطفال غزة، وإذا بقينا صامتين، نكون متواطئين".
أما داخل غزة، فإن المشهد أكثر قسوة؛ الآباء والأمهات يتقاسمون حصص الأطفال من العلاجات الغذائية لغياب البدائل، فيما يقول الدكتور ياسر أبو غالي من مستشفى ناصر: "لا نستطيع استقبال جميع الأطفال، نحتاج مئات الأسرّة، ولكن لا شيء بأيدينا"، لم تعد هذه الأزمة مجرد حالة طوارئ غذائية، بل انهيار شامل للبنية الصحية والاجتماعية.
كثير من العائلات لم تعد تملك القدرة على الوصول إلى مراكز التغذية، ناهيك عن تراجع قدرة الأمهات على الرضاعة الطبيعية بسبب سوء تغذيتهن أيضًا.
الأم وداد عبد العال، التي فقدت أسنانها لنقص الكالسيوم، تقول: "أرضعت خالد في البداية، لكنني الآن لا أملك ما يكفي لإطعامه"، في هذا الواقع المظلم، لا توجد بوادر حل قريبة، بينما تستمر المعاناة ويتواصل العجز الدولي عن فرض حلول حقيقية، فما يحدث في غزة، وبخاصة بين أطفالها، ليس مجرد نتيجة حرب، بل جريمة إنسانية يتطلب السكوت عنها مراجعة ضمير العالم.