بابا الفاتيكان.. زعيم بلا راتب في دولة تُغني عن المال
بابا الفاتيكان.. زعيم بلا راتب في دولة تُغني عن المال

في عالم تُقاس فيه المناصب غالبًا بحجم الرواتب والامتيازات، يبرز بابا الفاتيكان، الزعيم الروحي لأكثر من مليار كاثوليكي، كشخصية استثنائية لا تُقاس بثروة ولا يزن تأثيره بميزانية، فبين جدران دولة الفاتيكان الصغيرة، عاش الراحل البابا فرنسيس حياة تُشبه أكثر ما تكون إلى الزهد منها إلى السلطة، لا يتقاضى أجرًا، ولا يملك حسابًا مصرفيًا شخصيًا، لكنه يتمتع بنفوذ روحي يتجاوز حدود الجغرافيا، ومنذ انتخابه عام 2013، أحدث تحولاً في صورة البابوية، رافضًا المظاهر الباذخة ومفضلاً التواضع الشخصي على الامتيازات الرسمية، لم يكن رفض الراتب مجرد لفتة رمزية، بل امتدادًا لفلسفة كاملة عنوانها "الكنيسة الفقيرة للفقراء"، لكن كيف يُدار الجانب المادي لحياة رجل على رأس أصغر دولة في العالم؟ ومن يُموّل نفقاته؟ وكيف يوازن بين النفوذ الروحي والاحتياجات المعيشية؟
رغم المكانة العالمية لمنصب الـ"بابا" كرأس الكنيسة الكاثوليكية، فإنه لا يتقاضى أي راتب مقابل منصبه، وهو تقليد استمر عبر قرون من التاريخ البابوي، يُعبّر عن التزام المؤسسة الكنسية بمبدأ الخدمة لا المكافأة.
وبدلاً من الأجر المالي، تتكفل دولة الفاتيكان بجميع احتياجات البابا من النواحي المعيشية والطبية والأمنية، ما يجعل الحديث عن "راتب" شخصي أمرًا غير ذي معنى في السياق البابوي.
البابا الراحل فرنسيس، المولود باسم خورخي ماريو بيرغوليو في الأرجنتين، اتخذ منذ لحظة توليه الحبرية عام 2013 مواقف لافتة تتعلق بالبساطة والابتعاد عن الترف.
أولى هذه الإشارات كانت قراره بعدم الإقامة في القصر الرسولي، المقر التقليدي للبابوات، واختياره العيش في بيت الضيافة المتواضع "دوموس سانكتاي مارثاي"، حيث يتناول وجباته في صالة الطعام العامة، ويعيش كأي كاهن بسيط.
الفاتيكان، بوصفه كيانًا سياسيًا ودينيًا مستقلًا، يغطي تكاليف الإقامة والتنقل والرعاية الصحية والغذاء والملبس لكل من يشغل منصب البابا.
وتمتلك الدولة الصغيرة موارد مالية من عدة مصادر، أبرزها المتاحف والكنوز التاريخية، والتبرعات السنوية التي تتلقاها الكنيسة من الكاثوليك حول العالم، إضافة إلى الاستثمارات العقارية.
ومع أن البابا لا يمتلك مالًا خاصًا، فإنه يدير ميزانيات مخصصة للأعمال الخيرية والكنسية، ويُشرف على توجيه الدعم لمبادرات إنسانية مختلفة، لكن دون استخدام تلك الأموال لأغراض شخصية.
*راتب رمزي*
الحديث عن "راتب رمزي" للبابا عاد إلى الواجهة مع تقديرات أشارت إلى أن المبلغ قد يصل إلى 2800 دولار شهريًا، إلا أن المكتب الإعلامي للفاتيكان أكد أن البابا الراحل كان لا يتقاضى هذا المبلغ ولا أي تعويض مالي من هذا النوع.
هو التزام طوعي ومتسق مع مواقفه السياسية والدينية، خصوصًا دفاعه المتكرر عن العدالة الاجتماعية، وتوجيهه اللوم للنظام الاقتصادي العالمي بوصفه سببًا في تفشي الفقر والتهميش.
ومن مظاهر هذا الالتزام، أن البابا غالبًا ما يستخدم سيارات بسيطة في تنقلاته، ويرفض السيارات المصفحة أو الفارهة، بل وُثّق مرارًا وهو يستخدم سيارة صغيرة من نوع "فيات" خلال زيارته للولايات المتحدة عام 2015، في مشهد أثار إعجاب العالم، كما يرفض استخدام الطائرات الخاصة، مفضلاً الرحلات الجوية التجارية المنظمة من الفاتيكان.
*احتياجات إنسانية*
عام 2023، تجسدت هذه القيم في خطوة إنسانية رمزية حين تبرع البابا بمبلغ 225 ألف دولار لدعم نزلاء أحد السجون في روما، وهو مبلغ لم يُقتطع من راتب شخصي بل من صندوق بابوي خيري يُستخدم لتلبية الاحتياجات الإنسانية الطارئة.
هذه المبادرة كانت امتدادًا لسياسات الفاتيكان في دعم المهمشين واللاجئين وضحايا الحروب، وتنسجم مع توجهات البابا نحو "كنيسة خارجة إلى الأطراف" كما وصفها في أكثر من خطاب.
*التنظيم المالي*
لا يعني هذا أن حياة البابا خالية من التنظيم المالي، بل على العكس، لدى الفاتيكان جهاز مالي وإداري محكم يُشرف على كل ما يتعلق بالمصروفات الخاصة بالـ"بابا ليو الرابع عشر"، ويعرف قبلها بالكاردينال روبرت بريفوست الذي تم تقديمه بعد اختياره اسم "ليو"، لينضم البابا رقم 267 إلى مجموعة من 13 بابا سابقا حملوا هذا الاسم.
ويوفر له فريقًا من المستشارين الماليين، دون أن يرتبط ذلك بحيازة البابا لأموال شخصية.
في النهاية، يعكس النموذج المالي لحياة البابا فلسفةً تنتمي لعصر قديم في قالب حديث، تتحدى معايير الاستهلاك والثراء المنتشرة في عالم اليوم.
ففي دولة لا يزيد عدد سكانها عن ألف نسمة، يعيش رأس الكنيسة الكاثوليكية حياة لا تحتاج إلى حساب بنكي، بل إلى قناعة راسخة بأن الزعامة الحقيقية تُقاس بمدى خدمة الآخرين، لا بحجم الدخل.