اغتيال انتخابي أم تصفية مصالح.. الطارمية تُعيد العراق إلى المجهول
اغتيال انتخابي أم تصفية مصالح.. الطارمية تُعيد العراق إلى المجهول

في لحظةٍ كانت بغداد تستعد فيها لصخب الحملات الانتخابية، دوّى انفجارٌ في شمالها ليعيد الذاكرة العراقية إلى زمنٍ ظنّ كثيرون أنه مضى، مقتل صفاء المشهداني، عضو مجلس محافظة بغداد والمرشح للانتخابات المقبلة، لم يكن مجرد حادث أمني عابر، بل صفعة مدوية في وجه العملية الديمقراطية الهشة، فبينما كانت صناديق الاقتراع على بعد أسابيع، جاء الرصاص ليفتح من جديد ملف الاغتيالات السياسية، ويضع الحكومة والقضاء أمام امتحان عسير: هل يستطيع النظام العراقي أن يحمي مرشحيه قبل أن يطلب من شعبه التصويت لهم، حادثة الطارمية لم تفجر جسدًا واحدًا، بل فجرت أسئلة معلقة عن هشاشة الأمن وتداخل المصالح، عن السلاح المنفلت، وعن المعركة الخفية التي تسبق كل انتخابات، فهل كانت الجريمة تصفية انتخابية، أم مجرد رسالة دموية تقول "إن العراق لم يتجاوز بعد زمن الرصاص".
اغتيال يعيد الفوضى إلى الواجهة
مع صباح السبت، تحوّلت الطارمية إلى مسرح دموي جديد، عبوة لاصقة استهدفت مركبة صفاء المشهداني، العضو البارز في مجلس محافظة بغداد والمرشح عن أحد الائتلافات السنية، لتسفر عن مقتله وإصابة أربعة من مرافقيه بجروح متفاوتة.
الانفجار لم يكن مجرد هجوم أمني، بل رسالة سياسية مكتوبة بالدم، تُعيد مشهد الاغتيالات الذي ظنّ العراقيون أنه طُوي مع حقب العنف الطائفي.
الحدث أثار عاصفة من التساؤلات، من يقف خلف العملية، ولماذا الآن، ووصفه المحلل السياسي محمد علي الحكيم بالمؤشر الخطير على هشاشة النظام السياسي، واعتبره جريمة سياسية نكراء تمثل انتهاكًا صارخًا للدستور والقانون.
ويؤكد الحكيم في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن ترك هذه الجرائم من دون محاسبة سيقود العراق إلى مرحلة جديدة من الصراع المسلح بين القوى المتنافسة، خصوصًا في ظل تراجع الثقة بالقضاء وغياب الردع السياسي.
ويضيف: أن حماية العملية الديمقراطية تتطلب إرادة سياسية حقيقية، وإصلاحًا مؤسسيًا شاملاً يعيد للدولة هيبتها، ويحصر السلاح بيدها دون سواها.
أصابع خفية
من جهته، قدّم المحلل السياسي ماهر جودة قراءة مختلفة، فبرأيه، الطارمية ما زالت "بقعة رخوة أمنيًا"، رغم الحملات العسكرية المتكررة، وهي تشكّل ثغرة مفتوحة أمام الجماعات المسلحة والعصابات.
ويرى جودة -في تصريحات لـ"العرب مباشر"-، أن اغتيال المشهداني لم يكن عملًا عشوائيًا، بل عملية دقيقة تحمل بصمات جهة منظّمة تعرف تحركات الهدف.
لكنه يطرح احتمالاً آخر، أن تكون الجريمة ذات خلفية جنائية، خاصة أن المشهداني كان قد واجه أخيرًا شبكات نافذة تمارس عمليات تجريف الأراضي الزراعية وتحويلها إلى مشاريع غير قانونية، ما أضرّ بمصالح جهات متنفذة.
تأتي الجريمة قبل أقل من شهر على موعد الانتخابات البرلمانية، في وقت تشهد فيه الساحة السياسية توترًا متصاعدًا بين القوى المتنافسة.
الائتلافات الكبرى، مثل تحالف السيادة، تخوض معركة معقدة في محافظات عدة، وسط اتهامات متبادلة بشراء الولاءات وتمويل الحملات الانتخابية من مصادر غير مشروعة.
ويحذر مراقبون، من أن استمرار حوادث الاستهداف السياسي قد يُضعف المشاركة الشعبية ويقوّض نزاهة الانتخابات، ما قد يعيد البلاد إلى دائرة الطعن في شرعية النتائج.
استجابة حكومية وإدانة دولية
لم تمرّ الجريمة بصمت، بل خلّفت صدى واسعًا من الاستنكار الرسمي والشعبي داخل العراق وخارجه، إذ اعتُبرت رسالة خطيرة تهدد مسار العملية الديمقراطية في البلاد.
وأعربت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) عن "إدانتها الشديدة" لعملية الاغتيال، ووصفتها بأنها اعتداء مباشر على الاستقرار السياسي ومحاولة لترهيب المرشحين وتقويض ثقة الناخبين.
وطالبت البعثة بإجراء تحقيق عاجل وشفاف ومستقل يكشف الجناة ويدينهم، مشددة على أن "حماية المرشحين وضمان بيئة انتخابية آمنة ليست رفاهية، بل واجب وطني ومسؤولية سياسية وأخلاقية تقع على عاتق الدولة العراقية ومؤسساتها الأمنية".
ولم تقتصر ردود الفعل على الأمم المتحدة، إذ أصدرت عدد من السفارات الغربية والعربية بيانات متزامنة حذّرت فيها من تزايد محاولات العنف السياسي مع اقتراب موعد الانتخابات، معتبرة أن السماح بمرور مثل هذه الجرائم دون رد حاسم سيُضعف صورة العراق أمام المجتمع الدولي ويعيده إلى خانة الدول غير المستقرة.
وفي الداخل، تباينت المواقف السياسية بين من دعا إلى موقف حازم وصارم ضد السلاح المنفلت، وبين من ألمح إلى وجود أجندات خفية وراء الحادث، وتحت ضغط الشارع والتصعيد الإعلامي، أصدر رئيس الوزراء محمد شياع السوداني توجيهًا عاجلاً بتشكيل فريق تحقيق جنائي وفني مشترك يضم ضباطًا من الاستخبارات والأدلة الجنائية وجهاز الأمن الوطني، على أن يتم التحقيق تحت إشراف مباشر من قيادة عمليات بغداد.
وأكد السوداني، أن الحكومة تعتبر القضية اختبارًا لمصداقية الدولة، متعهدًا بأن "دماء الأبرياء لن تذهب سدى، وأن العدالة ستلاحق كل من يعبث بأمن البلد مهما كان نفوذه أو انتماؤه".
كما وجّه بفرض إجراءات أمنية مشددة لحماية المرشحين وتأمين الحملات الانتخابية في المناطق الساخنة، في إشارة واضحة إلى أن الحادث لن يمر بوصفه حادثًا عرضيًا، بل قضية أمن وطني.