هدنة تنهار وحدود تشتعل.. ما مستقبل الأزمة بين كابول وإسلام آباد؟

هدنة تنهار وحدود تشتعل.. ما مستقبل الأزمة بين كابول وإسلام آباد؟

هدنة تنهار وحدود تشتعل.. ما مستقبل الأزمة بين كابول وإسلام آباد؟
باكستان وأفغانستان

تعود الجغرافيا لتشعل التاريخ من جديد على امتداد الحدود المتداخلة بين باكستان وأفغانستان، حيث يتوارى الاستقرار خلف هدنة هشة سقطت خلال ساعات أمام نيران المدافع وتصاعد الدخان من القرى الحدودية. 

ومع كل جولة عنف بين البلدين الجارين، تعود أسئلة معقدة تتعلق بالسيادة والأمن والحدود والإرهاب والسياسة الدولية إلى الواجهة. ومع تجدد الاشتباكات خلال الأيام الأخيرة، وجد العالم نفسه أمام أزمة تهدد أمن جنوب آسيا وتعيد رسم تحالفاتها.

 فبينما تقول باكستان إنها تواجه تنظيمات مسلحة تتخذ من الأراضي الأفغانية منطلقًا لشن هجمات على أمنها القومي، تتهم حكومة طالبان في كابول الجيش الباكستاني بانتهاك سيادتها وجر البلاد نحو مواجهة مفتوحة، ومع انهيار وقف إطلاق النار الأخير خلال أقل من 48 ساعة، تتجه الأنظار إلى العاصمة القطرية الدوحة، حيث بدأ وفدان من الطرفين مفاوضات جديدة تحت عنوان "التهدئة"، بينما يرى مراقبون أن جذور الأزمة أعمق بكثير من هدنة مؤقتة أو اتفاق سياسي عابر. 


فهل ينجح الحوار هذه المرة في تطويق الانفجار؟ أم أن المنطقة على أعتاب تصعيد جديد؟

الصبر قد نفد


انهارت الهدنة المؤقتة بين باكستان وأفغانستان بعد ساعات قليلة من إعلانها، لتعود أصوات القصف المدفعي والغارات الجوية إلى سماء المناطق الحدودية، خصوصًا إقليم باكتيكا الأفغاني ومقاطعة وزيرستان الباكستانية.

 ووفق مصادر طبية محلية في أفغانستان، أسفرت الضربات الباكستانية الأخيرة عن مقتل عشرة مدنيين على الأقل وإصابة العشرات، بينهم أطفال، بينما أعلنت إسلام آباد أنها "استهدفت مواقع جماعات إرهابية" اتهمتها بشن هجمات داخل الأراضي الباكستانية.

وأعلنت حكومة طالبان أن "الصبر قد نفد"، مؤكدة أنها أعطت تعليمات لقواتها "بعدم المبادرة بالهجوم إلا في حال الاعتداء"، لكنها أكدت في الوقت ذاته أنها "سترد على أي خرق للسيادة".

 وفي تصريح لافت، قال المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد: إن "المفاوضات هي الطريق المناسب لحل الخلافات مع باكستان"، لكنه لوّح بأن "الرد سيكون دفاعيًا وحازمًا إذا استمرت الاستف provocations". 

تصريحات بدت متوازنة لكنها حملت رسائل مزدوجة، تعكس حرص كابول على تجنب مواجهة شاملة دون تقديم تنازلات أمنية واضحة لإسلام آباد.

في المقابل، جاء الموقف الباكستاني أكثر تشددًا، إذ ربطت الخارجية الباكستانية أي التزام بوقف إطلاق النار بقيام طالبان بـ"إجراءات حقيقية على الأرض" ضد حركة طالبان باكستان (TTP) وتنظيمات أخرى تتهمها إسلام آباد بالعمل بحرية داخل أفغانستان. 

وقال المتحدث باسم الخارجية الباكستانية شفقت علي خان: "لن نسمح لأي مجموعة إرهابية باستخدام الأراضي الأفغانية لضرب استقرار باكستان، وعلى طالبان أن تفي بوعودها الدولية".

وتكشف التطورات الأخيرة، أن الأزمة الحالية ليست سوى حلقة جديدة من مسلسل التوتر الدائم بين البلدين منذ سيطرة طالبان على كابول عام 2021. 

فمنذ ذلك الحين، شهدت الحدود المشتركة أكثر من 120 اشتباكًا مسلحًا، أغلبها بسبب اتهامات متبادلة باستضافة مجموعات متطرفة. كما فشلت تفاهمات أمنية سابقة، مثل "آلية التنسيق الحدودي" واتفاق "خفض التوتر" الذي رعته الصين العام الماضي.

خط دوراند


تاريخيًا، تعود جذور الخلاف إلى أكثر من قرن، حين ظهرت "خط دوراند" خلال الحقبة الاستعمارية البريطانية عام 1893 كفاصل سياسي بين باكستان وأفغانستان.

 ورغم أن باكستان تعتبر الخط حدودًا دولية معترفًا بها، ترفضه كابول وتعده تقسيمًا قسريًا للقبائل البشتونية على جانبي الجبال. وتحوّل هذا الخط إلى أحد أكثر خطوط التماس سخونة في العالم، حيث تتداخل الروابط القبلية مع المصالح الأمنية والسياسية والاستراتيجية.

وتفاقمت التوترات مع تصاعد نشاط حركة طالبان باكستان (TTP)، التي أعلنت صراحة سعيها لإسقاط الحكومة الباكستانية. وتتهم الأخيرة طالبان الأفغانية بتوفير غطاء لهذه الحركة ومنحها ملاذات آمنة. ورغم نفي طالبان الأفغانية ذلك، إلا أنها لم تستطع حتى الآن ضبط الحدود أو الحد من تحرك الجماعات المسلحة، خاصة في مناطق مثل خوست وباكتيكا وننجرهار.

في خطوة تعكس خطورة الوضع، أعلن الجيش الباكستاني -في بيان رسمي- أنه "لن يتردد في تنفيذ عمليات استباقية خارج الحدود إذا اقتضت الضرورة".

 هذه اللغة، التي تُستخدم عادة في سياق الرد على تهديدات خطيرة، تشير إلى أن باكستان تدرس خيارات عسكرية أوسع، خاصة وأنها سبق أن نفذت عمليات مشابهة ضد قواعد طالبان باكستان داخل أفغانستان في مارس 2022.

تحديات هائلة


على الجانب الآخر، تتهم طالبان باكستان باستخدام ملف اللاجئين الأفغان كورقة ضغط سياسي، فقد أعادت إسلام آباد خلال الأشهر الماضية أكثر من 600 ألف لاجئ أفغاني إلى بلادهم، وسط انتقادات دولية واسعة، وترى كابول أن هذه الخطوة تهدف إلى زعزعة استقرار أفغانستان ودفع الشارع ضد حكومة طالبان.

وفي خضم هذا التوتر المتصاعد، أعلنت قطر استضافة مفاوضات جديدة بين البلدين في الدوحة، وجاءت هذه الخطوة بعد اتصالات مكثفة من أطراف إقليمية ودولية، بينها الصين وإيران وتركيا، إلى جانب الأمم المتحدة.

ووصل وفدان رفيعا المستوى من الطرفين إلى الدوحة، الأول برئاسة وزير الدفاع الأفغاني محمد يعقوب مجاهد، نجل مؤسس طالبان الملا عمر، والثاني بقيادة وزير الدفاع الباكستاني خواجة آصف وبرفقة مدير الاستخبارات الجنرال عاصم ملك، وتؤكد مصادر دبلوماسية، أن المباحثات ستركز على "اتفاق أمن حدودي طويل الأمد" يشمل آليات مراقبة مشتركة وتعزيز التعاون الاستخباراتي.

ورغم أهمية المفاوضات الجارية، فإن التحديات تبدو هائلة، فمن جهة، تملك طالبان محددات أيديولوجية تمنعها من تقديم تنازلات واسعة قد تُفسر كضعف سياسي أو خضوع للضغوط. 

ومن جهة أخرى، تواجه باكستان ضغوطًا داخلية متزايدة بسبب تدهور الوضع الأمني والاقتصادي، ولا تستطيع تحمل استمرار استنزاف الحدود، وبينهما، تلعب قوى إقليمية كبرى—مثل الصين التي تستثمر مليارات في "الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني"—دورًا ضاغطًا لمنع تحول المنطقة إلى بؤرة انفجار جديدة.

وتتوقع تقارير استخباراتية أن أفق التهدئة لن يتحقق ما لم يتم التوصل إلى "صفقة أمنية متبادلة" تشمل الحد من نشاط طالبان باكستان وإقامة نقاط مراقبة مشتركة على الحدود وإعادة تفعيل لجان الأمن الثلاثية بين باكستان وأفغانستان والصين. 

كما تحذر الأمم المتحدة من تصاعد الخسائر الإنسانية، مشيرة إلى مقتل 37 مدنيًا خلال الأيام الماضية، وإصابة أكثر من 425 آخرين.

طالبان في مأزق


من جانبه، يرى الدكتور محمد المنجي، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، أن الأزمة بين باكستان وحكومة طالبان في أفغانستان ليست مجرد خلاف حدودي عابر يمكن احتواؤه بسرعة عبر مفاوضات ظرفية، بل هي تجلي لصراع أعمق يرتبط بمعادلات الأمن الإقليمي والتحولات الجيوسياسية في جنوب آسيا.

 ويؤكد المنجي في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن جوهر المشكلة يتمثل في تضارب المصالح الأمنية والاستراتيجية بين البلدين، خاصة مع استمرار اتهامات باكستان لحركة طالبان الأفغانية بتوفير ملاذات آمنة لمقاتلي حركة طالبان باكستان (TTP)، وهي اتهامات – برأيه – تستند إلى معطيات واقعية لا يمكن تجاهلها.

ويضيف أن طالبان الأفغانية تعاني مأزقًا سياسيًا معقدًا؛ فهي من جهة تسعى للحصول على شرعية دولية وإقامة علاقات طبيعية مع دول الإقليم، ومن جهة أخرى تخشى خسارة الحاضنة الأيديولوجية التي تقوم عليها، ما يجعلها تتجنب الاصطدام المباشر مع حركة طالبان باكستان.

كما يشير المنجي إلى أن العامل الصيني سيكون حاسمًا في مسار الأزمة، نظرًا لأن بكين لا يمكن أن تسمح بدوام التوتر على حدود مشروعها الاقتصادي العملاق في باكستان.

ويختتم بأن مفاوضات الدوحة قد توقف النزيف مؤقتًا، لكنها لن تنهي الأزمة ما لم يتم التوصل إلى اتفاق أمني شامل يراعي هواجس الطرفين ويربط الأمن بالاقتصاد والاستقرار السياسي في المنطقة.