تسفير الإرهابيين يعود للواجهة.. وإخوان تونس في دائرة الشبهات مجددًا
تسفير الإرهابيين يعود للواجهة.. وإخوان تونس في دائرة الشبهات مجددًا

في تونس ما بعد الثورة، حيث كان الحلم ببناء دولة مدنية حديثة، تسللت شبكات مظلمة إلى عمق الإدارة، وفتحت أبواب الهوية التونسية على مصراعيها لمن يدفع أو يخطط للدمار، وفي أحدث فصول ما بات يُعرف بـ"تسفير الإرهابيين"، أصدر القضاء التونسي أحكامًا قاسية بالسجن وصلت إلى 72 عامًا لكل متهم، ضد ثلاثة موظفين سابقين بالدولة، تورطوا في بيع الجنسية التونسية لأجانب بعضهم ضالع في الإرهاب، وتحديدًا خلال سنوات حكم حركة النهضة ذات التوجه الإخواني.
التحقيقات كشفت عن شبكة إدارية معقدة، تشابكت فيها مصالح القناصل وموظفي الحالة المدنية مع أجندات مشبوهة، مكّنت إرهابيين من حمل جوازات سفر تونسية والسفر نحو بؤر الصراع، هذه الأحكام ليست فقط نهاية مسار قضائي، بل بداية لكشف أكبر عن مدى اختراق أجهزة الدولة، وتحويل الجنسية التونسية من رمز للانتماء إلى أداة عابرة للدمار.
*أحكام غير مسبوقة في قضية بيع الهوية الوطنية*
قضت الدائرة الجنائية المختصة بقضايا الإرهاب بالمحكمة الابتدائية بتونس، بسجن ثلاثة موظفين حكوميين لمدد تجاوزت السبعين عامًا لكل منهم، بعد إدانتهم بتزوير وثائق رسمية ومنح الجنسية التونسية لأجانب، يُشتبه في تورط عدد منهم في أعمال إرهابية. اثنان من المتهمين كانا يشغلان مناصب دبلوماسية بقنصلية تونس في سوريا، بينما عمل الثالث بقسم الحالة المدنية ببلدية تونس.
المحكمة أصدرت أيضًا أحكامًا تكميلية بحق المتهمين، من بينها الحرمان من الحقوق المدنية والسياسية، ما يعكس خطورة الأفعال المرتكبة وارتباطها المباشر بالأمن القومي التونسي.
*كيف تحولت الجنسية إلى سلعة؟*
التحقيقات التي بدأت في نوفمبر 2022، كشفت عن شبكة منظمة من موظفين حكوميين ووسطاء، تورطوا في "بيع الهوية" التونسية خلال فترة حكم حركة النهضة بين عامي 2011 و2014.
وتشير الوثائق القضائية، أن الجريمة لم تكن مجرد فساد إداري، بل غطاءً شرعيًا لتمكين عناصر مشبوهة من التحرك عبر الحدود بجوازات سفر تونسية مزورة أو مُباعة.
الشبكة ضمت 14 شخصًا على الأقل، من بينهم دبلوماسيون، موظفون بوزارات الداخلية والخارجية والعدل، ومكلفون بالأحوال المدنية داخل وخارج البلاد، ما يسلط الضوء على عمق الاختراق داخل الدولة، ومدى تسييس الجهاز الإداري خلال تلك الفترة.
*تسفير ممنهج وتواطؤ سياسي؟*
قضية تسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتر، خصوصًا في سوريا وليبيا، ليست جديدة. فقد فتحت النيابة العامة التونسية في سبتمبر 2022 ملفات أكثر من 100 مشتبه بهم، من بينهم وزراء سابقون، رجال أعمال، وضباط أمن، جميعهم مرتبطون بفترة حكم النهضة أو مقربون منها سياسيًا.
التحقيقات استندت إلى شكاوى قدمتها النائبة السابقة فاطمة المسدي، عضو لجنة تقصي الحقائق في شبكات التسفير، والتي طالبت بفتح أرشيف تلك المرحلة.
النتائج كانت صادمة، عشرات الشباب سُفّروا إلى مناطق النزاع عبر شبكات تجنيد منظمة، كان بعضها يستند إلى شرعية قانونية مزيفة ساعدت في تمرير الجوازات والهويات الرسمية.
*حركة النهضة في مرمى الاتهام مجددًا*
الذراع السياسي للإخوان في تونس، أي حركة النهضة، تواجه اليوم تبعات فترة حكمها التي باتت تلاحقها قضائيًا، فإلى جانب محاكمات متواصلة لقياداتها، واعتقالات طالت وزراء سابقين، بدأت تتكشّف خيوط المسؤولية السياسية عن أكبر عملية تسفير للإرهابيين في تاريخ البلاد الحديث.
وتؤكد مصادر قضائية، أن بعض الوثائق تشير إلى تواطؤ على أعلى مستويات الجهاز الإداري حينها، ما يثير تساؤلات عن الغطاء السياسي الذي مكّن هذه الشبكة من العمل دون رقابة فعلية.
في هذا السياق، تتجدد الدعوات لمحاسبة المسؤولين الحقيقيين، وليس فقط الموظفين التنفيذيين الذين نفّذوا الأوامر أو استفادوا من نظام فاسد.
من جانبه، يقول المحلل السياسي التونسي المنجي الصرارفي: إن "الأحكام القضائية الأخيرة تمثل نقلة نوعية في مقاربة الدولة التونسية لملف الإرهاب، حيث لم تكتف بملاحقة المنفذين الميدانيين، بل بدأت تحاسب من وفّر الغطاء القانوني واللوجستي لهم".
ويضيف في حديثه لـ"العرب مباشر"، "خلال فترة حكم حركة النهضة، حدث تسييس ممنهج للإدارة، ما سهّل تمرير صفقات مشبوهة كبيع الجنسية، وفتح قنوات غير شرعية أمام الإرهابيين للتنقل".
ويتابع الصرارفي، ما يثير القلق ليس فقط ما حدث، بل ما لم يُكشف بعد، هناك شكوك حول وجود خلايا نائمة إدارية ما تزال تعمل أو تحفظ ملفات حساسة؛ مما يجعل فتح الأرشيف الوطني ضرورة ملحة.
أما من ناحية العدالة، فهذه الخطوة تمهد لتوسيع المساءلة لتشمل المسؤولية السياسية، وليس فقط القانونية، عن الجرائم التي وقعت في قلب مؤسسات الدولة.