السودانيون يقاومون انهيار الاقتصاد بالمقايضة.. أسواق بديلة تولد من قلب الحرب

السودانيون يقاومون انهيار الاقتصاد بالمقايضة.. أسواق بديلة تولد من قلب الحرب

السودانيون يقاومون انهيار الاقتصاد بالمقايضة.. أسواق بديلة تولد من قلب الحرب
الحرب السودانية

في بلدٍ أنهكته الحرب الممتدة منذ أكثر من عامين، لم يعد المال وسيلة مضمونة لتأمين الاحتياجات اليومية، بل أصبح حمله مخاطرة بحد ذاته، وبينما تتداعى مؤسسات الدولة ويغيب النظام المصرفي عن المشهد، يجد السودانيون أنفسهم مدفوعين قسرًا نحو اقتصاد بديل قائم على المقايضة وتبادل السلع، مذكّرًا بما يشبه عصورًا سابقة سبق فيها الشيء قيمته النقدية.

 داخل المدن المحاصرة والقرى النائية ومخيمات النزوح المكتظة، ترتسم ملامح مشهد اقتصادي موازٍ يتكيّف فيه المواطنون والتجار والنازحون مع واقع يفتقر إلى السيولة، وتتعثر فيه المدفوعات الإلكترونية بسبب انهيار الاتصالات وانعدام الكهرباء، في خضم هذه الفوضى، تظهر أشكال جديدة من أسواق صغيرة ومبادرات فردية وابتكارات قسرية لخلق مصادر دخل، في ظل واقع إنساني معقّد تبقى فيه القدرة على الحصول على الطعام أو الوقود أو حتى الخدمات اليومية رهينة الأشياء المتوافرة لدى كل أسرة.

المقايضة هي الخيار الوحيد


مع انهيار المنظومة المصرفية السودانية وتوقف معظم التعاملات النقدية، باتت المقايضة الخيار الوحيد الذي يسمح للمواطنين بتلبية احتياجاتهم اليومية، في مدينة الدلنج بولاية جنوب كردفان، يروي إبراهيم، وهو موظف حكومي، أنه لم يلمس ورقة نقدية منذ تسعة أشهر كاملة، بعد أن تحوّل راتبه إلى رقم بلا أثر، بينما باتت مقتنياته الشخصية وسيلته الوحيدة للحصول على الغذاء، يذكر إبراهيم أنه اضطر لمبادلة دراجة نارية بثلاثة أكياس من الذرة، في مشهد يلخص حجم الانهيار الذي أصاب دورة المال في البلاد.

الدلنج وعدد من مدن كردفان محاصرة منذ أشهر من قبل القوات المتحاربة في السودان، في ظل سعي كل طرفًا لانتزاع السيطرة على المدن، ومع توقف الحركة التجارية وانهيار الاتصالات وانعدام الخدمات المصرفية، نشأت داخل هذه المناطق شبكات مقايضة غير رسمية باتت تشبه نظامًا اقتصاديًا جديدًا يعتمد على تبادل المنفعة، وتتخذ المقايضة أشكالًا متعددة، منها منح الوقود مقابل الأجهزة المنزلية، أو الحصول على الدقيق مقابل الملابس، بل وحتى تبادل الخدمات اليومية مقابل مواد غذائية بسيطة.

غياب وسائل الدفع الآمنة


ويقول هاشم الطيب، أحد المتطوعين المحليين: إن سائقي الدراجات النارية والتكاتك أصبحوا يتلقون أجورهم في شكل أطعمة أو زيوت، بعدما بات حمل النقود خطرًا قد يعرّض صاحبه للنهب أو الاستهداف، ومع احتدام الحرب وامتداد فوضى السلاح، لم يعد المال يضمن الحماية ولا يحفظ قيمة.

منذ اشتعال الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، تعرّض البنك المركزي في الخرطوم للحرق، فتوقف نظام التحويل المالي الدولي “سويفت”، وتعرضت البنوك للنهب، ما أدّى إلى اختفاء السيولة من البلاد، قبل الحرب، كان اليورو يساوي 450 جنيهًا، أما الآن فقد قفز إلى 3500 جنيه في السوق السوداء، ما يعكس انهيار قيمة العملة وتآكل القدرة الشرائية، وعلى الرغم من أن نسبة ضئيلة من السودانيين كانت تملك حسابات مصرفية قبل الحرب، فإن المدفوعات الرقمية عبر تطبيقات مثل "بنكك" مثلت بديلًا منتشرًا في المدن، غير أن انقطاع الاتصالات واستهداف الأبراج عطّل هذا الخيار أيضًا، تاركًا المواطنين بلا وسيلة دفع آمنة.

مشهد معقد


في مخيمات النزوح، يتجلى التكيف الاقتصادي للسكان بوضوح أكبر، فبين خيام متناثرة وممرات مكتظة، برزت أسواق صغيرة تعتمد على المقايضة والمرونة اليومية، في مخيم ببورتسودان، تقول عائشة إسماعيل بائعة خضراوات، إنها تعتمد على توريدات يومية من مزارع قريبة أو تبرعات من منظمات الإغاثة، وتعرض بضاعتها على الأرض لعدم وجود بنية تحتية، وتوضح أن الزبائن غالبًا ما يشترون بالخضراوات أو السكر أو بقسائم غذائية، وأن تحركات الباعة تعتمد على تنظيم ذاتي لتفادي الفوضى.

أما صفاء الحسن، وهي نازحة تدير مقهى صغير داخل مخيم في الخرطوم، فتصِف يومها بأنه مزيج بين العمل المنزلي وإدارة مشروع صغير، تشتري المكونات المتاحة وتحدد أسعارًا تراعي قدرة المشترين المحدودة، وتلجأ إلى المقايضة عند الضرورة، تقول إن عملها يتجاوز التحضير والبيع، ليشمل إدارة المخزون والتخطيط لضمان استمرار المشروع حتى نهاية اليوم دون نفاد الموارد.

وكذلك شقيقتها، هناء الحسن، التي تعمل في بيع الملابس المستعملة، تواجه تحديات مختلفة، إذ تعتمد على تبرعات غير ثابتة من منظمات أو تجار يجلبون الملابس من الخارج، وتخضع هذه الملابس لفرز دقيق قبل عرضها بأسعار رمزية أو مقابل سلع أخرى، وتؤكد أن أكبر عقبة تواجهها هي انعدام الاستقرار في توفر البضائع، مما يفرض عليها تخطيطًا يوميًا لتحقيق الاستفادة القصوى.

وسط هذا المشهد المعقد، يبدو أن السودانيين يبتكرون اقتصادًا بديلًا ومرنًا، رغم فوضى الحرب، ومع أن هذا النظام لا يعوّض غياب الدولة ولا يضمن استدامة الحياة، فإنه يعكس قدرة المجتمع على المقاومة والصمود، وعلى خلق حلول آنية في غياب المؤسسات.