المعادن النادرة.. سلاح الصين الخفي في معركة الصناعات الثقيلة
المعادن النادرة.. سلاح الصين الخفي في معركة الصناعات الثقيلة

في قلب الصراع الجيوسياسي العالمي، لا تُدار المعارك فقط بالسلاح أو الرسوم الجمركية، بل بأدوات أقل وضوحًا، كالعناصر الأرضية النادرة، هذه المعادن غير اللامعة التي لا تثير الانتباه ظاهريًا، باتت جوهر التكنولوجيا المتقدمة، وورقة الصين الرابحة في مواجهة الغرب.
في أبريل الماضي، قررت بكين فجأة وقف تصدير فئة منها، لتصيب شريان صناعة السيارات في مقتل، ففي مصانع أوروبا وأمريكا، توقفت خطوط الإنتاج، ورفرفت أعلام الإنذار في غرف اتخاذ القرار، ما يحدث ليس مجرد أزمة مواد خام، بل لحظة مفصلية تُعيد تشكيل علاقة الصين بالعالم الصناعي، وتفرض تساؤلات حادة حول حدود الاعتماد على التنين الآسيوي، واحتمالات تحوّل "الندرة" إلى أداة هيمنة.
مركز تحكم
لم تكن خطوة بكين في الرابع من أبريل، بوقف تصدير فئة من "العناصر الأرضية النادرة الثقيلة"، سوى إعلان غير مباشر بأن الصين لم تعد مجرد مصنع العالم، بل مركز التحكم في أعصابه المعدنية.
هذا القرار لم يُتخذ فجأة، بل جاء كذروة تصاعدية ضمن سلسلة إجراءات صينية بدأت منذ سنوات، لتكريس هيمنتها على قطاع حيوي يتحكم في كل ما نركبه أو نحمله أو نستخدمه.
تضم هذه العناصر 17 معدنًا فائق الأهمية، تدخل في صناعات لا حصر لها، من الأسلحة إلى الهواتف، ومن توربينات الرياح إلى أنظمة الملاحة، لكنها تتموضع بشكل خاص في قلب صناعة السيارات الحديثة. فكل سيارة تعمل بالوقود تحتوي على محول حفاز يعتمد على هذه المعادن لتقليل الانبعاثات. وكل سيارة كهربائية لا يمكن أن تعمل دون محركات مغناطيسية وبطاريات تعتمد بشكل جوهري على نفس العناصر.
قوة مزدوجة
المحللة غريسلين باسكاران من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية وصفتها بأنها موجودة في كل مكان داخل السيارة: من حزام الأمان إلى عجلة القيادة.
وتضيف: "دونها، لا يمكن صنع أي مركبة". ما يجعل الأمور أكثر تعقيدًا هو أن الصين لا تسيطر فقط على الاستخراج، بل تحتكر أيضًا ما يصل إلى 90% من عمليات المعالجة العالمية لهذه المعادن، وهو ما يعطيها قوة مزدوجة، قدرة على ضخ السوق، وسيفًا جاهزًا لقطعه.
رغم أن تسمية "نادرة" قد توحي بالندرة الجيولوجية، إلا أن هذه المعادن ليست نادرة في الطبيعة، بل في مدى صعوبة استخلاصها وتنقيتها من الصخور.
هذه العملية تتطلب تجهيزات معقدة وتكلفة بيئية عالية، ما جعل معظم الدول تفضل شراء المنتج النهائي من الصين، بدلًا من تطوير سلاسل إنتاجها الخاصة.
حين قررت بكين وقف تصدير المعادن الثقيلة، كانت الصدمة سريعة، فقد اضطر عدد من مصانع السيارات في أوروبا إلى تعليق عمليات الإنتاج.
شركة فورد الأمريكية أوقفت تصنيع سيارتها الرياضية الشهيرة "إكسبلورر"، بعد نفاد المواد الخام في غضون أسابيع، وفق ما قاله دان هيرش، المدير في شركة "أليكس بارتنرز".
لكن خلف هذه الأزمة الطارئة تكمن معضلة أعمق: التبعية الصناعية للعالم الغربي تجاه الصين، فمنذ عقود، اختارت الشركات الكبرى تقليص التكلفة وتحقيق الربح، دون التفكير في العواقب الاستراتيجية، والنتيجة أن اقتصادًا كاملًا بات معلقًا على قرار سياسي يصدر من بكين.
مصادر بديلة
في محاولة للحد من الأزمة، أعلنت إدارة ترامب أنها توصلت هذا الأسبوع إلى اتفاق مع بكين لتسريع شحنات المغناطيس والمعادن إلى الولايات المتحدة.
لكن المحللين يُحذرون من أن هذا الاتفاق قد يكون مؤقتًا، وربما هشًا في ظل التوترات التجارية المتواصلة، وتضيف باسكاران، لم نتجاوز الأزمة بعد، فالعلاقة متقلبة، وقد نرى قيودًا جديدة خلال أشهر.
من جانب آخر، تبحث الشركات والحكومات عن حلول استراتيجية طويلة الأجل، تشمل هذه الحلول تطوير مصادر بديلة للتعدين في إفريقيا وأستراليا، وتحسين تقنيات إعادة التدوير لاستخلاص المعادن من الأجهزة الإلكترونية المستهلكة، بالإضافة إلى دعم الابتكار لتقليل الحاجة لبعض العناصر، لكنها خطوات تحتاج إلى سنوات، في حين أن الانقطاع في التوريد يحدث خلال أيام.
الأزمة الحالية تسلط الضوء على ضعف في بنية الاقتصاد العالمي، الاعتماد على مصدر وحيد لأصول بالغة الأهمية.
ويُحذر دان هيرش من أن المعادن الأرضية النادرة اليوم هي المشكلة، لكن الغد قد يحمل مواد جديدة لم نكن نحسب لها حسابًا.