غزة بين النار والمفاوضات.. القاهرة تسابق الزمن لإنجاز اتفاق يوقف نزيف الحرب
غزة بين النار والمفاوضات.. القاهرة تسابق الزمن لإنجاز اتفاق يوقف نزيف الحرب

تعود مدينة شرم الشيخ المصرية إلى واجهة الأحداث من جديد، لتحتضن واحدة من أكثر جولات التفاوض حساسية بين حركة «حماس» وإسرائيل منذ اندلاع الحرب الأخيرة على غزة، خلف الأبواب المغلقة، تتقاطع الحسابات السياسية والأمنية والإنسانية وسط ضغوط أميركية متزايدة لإبرام اتفاق يضع حدًا لدوامة العنف التي أنهكت الإقليم، في هذه الجولة، يبدو أن القاهرة تسعى بكل أدواتها إلى إنقاذ المسار السياسي من الانهيار، عبر خلق توازن دقيق بين الأمن الإسرائيلي وحق الفلسطينيين في الحياة.
ومع أن الأجواء توصف بـالإيجابية، فإن الطريق نحو اتفاق شامل ما زال مليئًا بالألغام، خاصة في ظل تعنت الحكومة الإسرائيلية ومخاوف حماس من تكرار سيناريوهات الهدن المؤقتة السابقة، شرم الشيخ هذه المرة ليست فقط ساحة مفاوضات، بل اختبار حقيقي لقدرة الوساطة الإقليمية على انتزاع تسوية تُعيد الأمل إلى قطاع أنهكته الحرب.
استمرار العدوان يعطل المفاوضات
استأنفت الوفود المشاركة في مفاوضات شرم الشيخ، ظهر الثلاثاء، جلساتها الجديدة وسط أجواء وصفتها مصادر دبلوماسية بـ الإيجابية الحذرة، بعد أربع ساعات من النقاشات المكثفة التي شهدتها الليلة السابقة، بحضور ممثلين عن مصر وقطر والولايات المتحدة وتركيا، إلى جانب وفد حركة حماس.
تتركز المباحثات حول تهيئة الظروف الميدانية لتنفيذ خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، التي تتضمن مراحل لتبادل الأسرى والمحتجزين تمهيدًا لوقف إطلاق النار الشامل، ووفق ما نقلته قناة القاهرة الإخبارية.
لكن رغم الأجواء المتفائلة التي حرص الوسطاء على إظهارها، كشفت مصادر في حماس، أن استمرار القصف الإسرائيلي في مناطق متفرقة من قطاع غزة يمثل تحديًا حقيقيًا أمام أي تقدم، مؤكدة أن الحركة اشترطت وقف العمليات العسكرية لتهيئة المناخ اللازم لإنجاح التفاوض.
ويضم وفد الحركة، بحسب المصادر، خليل الحية وزاهر جبارين، وهما من القيادات التي نجت من محاولة اغتيال في الدوحة الشهر الماضي، في مؤشر على حساسية الدور الذي تلعبه حماس في هذه الجولة، وقد أبلغ الوفد الفلسطيني الوسطاء بأن أي نقاش حول التبادل أو مستقبل القطاع لن يثمر ما لم يتوقف العدوان وتُرفع القيود الميدانية المفروضة على السكان.
نتنياهو يصّر: لا مرونة
أما من الجانب الإسرائيلي، فتبدو المواقف أكثر تصلبًا. فقد أكدت القناة 13 العبرية، أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وجّه واضحة إلى الوفد المفاوض بعدم إبداء أي مرونة في البنود الأساسية لخطة ترمب، معتبرًا أن أي تنازل سيُفسَّر داخليًا كضعف سياسي في ظل تصاعد الانتقادات داخل حكومته اليمينية..د
في المقابل، تسعى القاهرة إلى الحفاظ على توازن دقيق في الطاولة المستديرة. فالمصادر المصرية تشير أن القاهرة تدرك أن فشل هذه الجولة سيعني عودة التصعيد العسكري، وهو ما لا ترغب به أي من العواصم الإقليمية. لذلك تركز الجهود المصرية على تثبيت هدنة طويلة الأمد تفتح الباب أمام ترتيبات إنسانية واقتصادية عاجلة، تشمل إدخال المساعدات وإعادة الإعمار وتخفيف الحصار على غزة.
اللافت، أن المباحثات، بحسب مصادر فلسطينية مطلعة، لا تقتصر على الملفات الأمنية، بل تمتد إلى مناقشة مستقبل إدارة القطاع بعد وقف إطلاق النار.
وتدور بعض المقترحات حول تشكيل قوة دولية مؤقتة تشرف على تثبيت الاستقرار، وتضمن تنفيذ أي اتفاق يتم التوصل إليه، في ظل غياب الثقة المتبادلة بين الجانبين.
الوسطاء، وعلى رأسهم مصر وقطر، يعملون على وضع إطار زمني واضح لعملية التبادل وتثبيت الهدنة على الأرض، مع توقعات بأن تمتد المفاوضات لعدة أيام بسبب التباين الكبير في مواقف الطرفين.
ففي حين تصرّ إسرائيل على إدراج مسألة نزع سلاح حماس ضمن أي اتفاق نهائي، تعتبر الحركة أن هذا الشرط يمس جوهر المقاومة الفلسطينية، وتراه محاولة لتجريدها من أدوات الردع الوحيدة أمام التفوق العسكري الإسرائيلي.

خطوط حمراء
الرئيس الأميركي ترمب، الذي يتابع المفاوضات من واشنطن، أكد للصحافيين أن لديه خطوطًا حمراء لن يتجاوزها، قائلاً: إذا لم تتحقق أمور معينة فلن نمضي في الأمر، لكنه أشار في الوقت نفسه إلى تفاؤله قائلاً: "أعتقد أننا سنتوصل إلى اتفاق في غزة، أنا شبه متأكد من ذلك".
ويبدو أن هذا التفاؤل يعكس رغبة أميركية في تسجيل اختراق دبلوماسي يحسب للإدارة الحالية، خصوصًا في عام انتخابي محتدم بالملفات الخارجية.
في المقابل، يحذر مراقبون فلسطينيون من أن الطريق إلى التفاهمات لا يزال طويلًا، فالماضي القريب يشهد بأن اتفاقات مشابهة انهارت في اللحظة الأخيرة بسبب غياب الضمانات، كما حدث في جولات سابقة.
ويشير هؤلاء إلى أن القاهرة، رغم خبرتها الطويلة في الوساطة، تواجه اليوم تحديًا معقدًا يتمثل في طمأنة الجانبين معًا، الإسرائيلي الذي يخشى فقدان السيطرة الأمنية، والفلسطيني الذي يعيش مأساة إنسانية خانقة ويريد ضمانات حقيقية بعدم تكرار الانتهاكات.
وفي الوقت الذي يواصل فيه الجيش الإسرائيلي استعداداته الميدانية تحسبًا لأي فشل في المحادثات، حذّر رئيس الأركان إيال زامير من أن الجيش سيعود للقتال فورًا إذا انهارت المفاوضات، مؤكدًا أن الخيار العسكري ما يزال مطروحًا بقوة.
ورغم التصريحات المتشددة، يرى دبلوماسيون غربيون، أن وجود وفود بهذا الحجم وهذه التركيبة في شرم الشيخ يشير إلى إدراك الجميع أن البديل عن التفاوض هو انفجار جديد في المنطقة، فالقاهرة بالنسبة لكثيرين ليست مجرد منصة للوساطة، بل صمام أمان يمنع انزلاق الأوضاع إلى فوضى شاملة، وفي ضوء تباين المواقف الإسرائيلية والفلسطينية، تبدو مهمة الوسطاء شاقة، لكن ليست مستحيلة.
فكل الأطراف، رغم التصعيد الكلامي، تدرك أن استمرار الحرب لم يعد خيارًا مقبولًا دوليًا، وأن الحل السياسي، مهما بدا بعيدًا، يظل المخرج الوحيد من مأزق غزة.
ضمانات حقيقية
من جانبه، يرى الدكتور طارق فهمي، أن مفاوضات شرم الشيخ تمثل اختبارًا دقيقًا لقدرة الدبلوماسية المصرية على إدارة توازن بالغ الحساسية بين طرفين لا يثقان ببعضهما، في وقت تتشابك فيه الحسابات الإقليمية والدولية.
ويؤكد، أن القاهرة تراهن على خبرتها الطويلة في التعامل مع ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، لكنها تواجه الآن واقعًا أكثر تعقيدًا، خاصة مع دخول أطراف جديدة على خط الوساطة مثل قطر وتركيا، وما يرافق ذلك من تنافس ناعم على التأثير في القرار الفلسطيني.
ويشير فهمي في حديثه لـ"العرب مباشر"، إلى أن موقف إسرائيل المتصلب يعكس أزمة داخلية حقيقية يعيشها نتنياهو، إذ يحاول توظيف المفاوضات سياسيًا لتعزيز موقعه أمام اليمين المتشدد، ما يجعله أقل استعدادًا لتقديم تنازلات، في المقابل، تسعى «حماس» إلى استثمار الضغط الإنساني المتزايد على غزة لانتزاع مكاسب سياسية ومعنوية تعيد لها حضورها الإقليمي.
ويرجح الخبير المصري، أن نجاح الوساطة سيعتمد على قدرة واشنطن والقاهرة على انتزاع التزامات واضحة من الطرفين، ووجود ضمانات حقيقية لتنفيذ أي اتفاق.
ويختم قائلًا: "المفاوضات الحالية لن تنتهي باتفاق شامل، لكنها قد تفتح الباب لهدنة طويلة، تمهّد لتسوية أوسع إذا توفرت الإرادة السياسية الإقليمية".