الفاشر بين الروايات المتضاربة.. لماذا تهرب بورتسودان من التحقيق الدولي؟

الفاشر بين الروايات المتضاربة.. لماذا تهرب بورتسودان من التحقيق الدولي؟

الفاشر بين الروايات المتضاربة.. لماذا تهرب بورتسودان من التحقيق الدولي؟
الحرب السودانية

في خضمّ تصاعد الضغوط الدولية لكشف حقيقة ما جرى في مدينة الفاشر عقب سيطرة قوات الدعم السريع عليها أواخر أكتوبر، وجدت سلطة بورتسودان نفسها في قلب عاصفة سياسية وإنسانية معقدة، فبدلاً من تلقّي قرار مجلس حقوق الإنسان باعتباره فرصة لوضع حدّ لدوامة الروايات المتضاربة حول الانتهاكات، رفضت السلطة أربع فقرات محورية في القرار تتعلق بتشكيل لجنة تقصّي حقائق دولية، وقد أثار هذا الرفض تساؤلات واسعة في الداخل والخارج، خاصة مع استعداد قوات الدعم السريع للترحيب الكامل بعمل اللجنة.

لم يأتِ هذا الموقف بمعزل عن سياق أوسع من الاتهامات الموجّهة للجيش ومجموعات موالية له بارتكاب انتهاكات جسيمة خلال شهور الحرب، أو عن تخوّف السلطة القائمة من أن تمتد تقارير لجان التحقيق الدولية إلى مناطق سيطرة الجيش وليس الفاشر وحدها، هكذا تحوّل الخلاف حول آلية التحقيق إلى مرآة تعكس عمق أزمة الثقة بين الأطراف المتحاربة، وتعقيدات المشهد الحقوقي في السودان، والمخاطر السياسية التي تخشاها بورتسودان من كشف ملفات ثقيلة يصعب التنبؤ بتداعياتها.

خلفية القرار وسياق الرفض

عندما اعتمد مجلس حقوق الإنسان، في اجتماعه الأخير، قرارًا تضمن بنودًا تنص على مباشرة لجنة تقصّي حقائق دولية عملها داخل السودان، بدا الأمر خطوة منطقية في ظل الضبابية المحيطة بما جرى في مدينة الفاشر. 

فقد التقطت وسائل إعلام محلية ودولية صورًا وتسجيلات قيل إنها توثّق انتهاكات واسعة النطاق ارتكبها مقاتلو الدعم السريع بحق المدنيين، قبل أن تُظهر منصات أوروبية مختصة بالتحقق أن نسبة كبيرة من تلك المواد مفبركة أو منقولة من سياقات أخرى. 

وبينما ظل الجدل محتدمًا حول حقيقة تلك الانتهاكات، كان يُتوقع أن تبادر سلطة بورتسودان إلى الترحيب بخطوة قد تبرّئ موقفها أو تؤكد روايتها الرسمية.

لكن المفاجأة جاءت عندما رفضت السلطة البنود الأربع المتعلقة بعمل لجنة التقصي، وهو ما اعتبره مراقبون انقلابًا على خطابها السابق الذي كان يطالب بإدانة الدعم السريع وتحميله مسؤولية ما جرى في الفاشر.

فكيف تنتقل السلطة من المطالبة بالتحقيق إلى رفض الدخول في مسار دولي قد يتيح لها إثبات روايتها، سؤال لم يجد إجابة رسمية واضحة، لكن تحليلات كثيرة قدّمت تفسيرًا ممكنًا لهذا التحوّل.

اتهامات تُربك موقف السلطة

خلال الأشهر الأخيرة، واجه الجيش ومجموعات متحالفة معه اتهامات متزايدة من منظمات دولية بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الخرطوم وولاية الجزيرة. وازدادت حساسية الوضع بعد اتهامات طالت عناصر محسوبة على التيار الإخواني بارتكاب فظائع مروّعة خلال يونيو الماضي.

هذه الملفات، بحسب مراقبين، باتت تشكّل محورًا رئيسيًا في حسابات سلطة بورتسودان، التي تخشى أن يوسّع أي فريق دولي للتقصّي نطاق عمله ليشمل هذه الوقائع أيضًا.

وتشير تقارير أممية حديثة إلى وجود نمط متكرر من الانتهاكات نُسب إلى الجيش يشمل القصف العشوائي للمناطق السكنية، والقتل خارج إطار القانون، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، وكذلك اعتقالات وحشية في ظروف غير إنسانية، كل هذه الاتهامات تجعل أي تحقيق دولي شامل تهديدًا مباشرًا للسلطة القائمة، ليس فقط على المستوى السياسي، بل على مستوى المساءلة القانونية للقادة العسكريين.

مخاوف من المحاكمات الدولية

يوضح إسماعيل مضوي، الخبير القانوني والمستشار السابق في الأمم المتحدة، أن رفض مسار التحقيق الدولي يعكس رغبة السلطة في تجنّب مخاطر أكبر ترتبط بمبدأ عدم الإفلات من العقاب، فالتباطؤ في التحقيقات، كما يقول، أتاح بيئة خصبة لتكرار الانتهاكات طوال سنوات، وهو ما يجعل أي مراجعة أممية مستقلة بمثابة تهديد حقيقي لمسؤولين عسكريين قد يجدون أنفسهم في مواجهة إجراءات قضائية دولية.

هذا الموقف يؤيده أيضًا رأي صحافيين وخبراء حقوقيين، منهم صباح محمد الحسن، التي ترى أن السبب الأبرز للرفض يتمثل في الخشية من أن تكشف لجنة التحقيق ما لا ترغب السلطة في ظهوره للعلن، مثل انتهاكات حدثت داخل مناطق النفوذ العسكري نفسه، وليس فقط في المناطق التي سيطر عليها الدعم السريع.

اتهامات بالتسييس واستثمار ملف الفاشر

تذهب المحامية رحاب مبارك إلى أبعد من ذلك، إذ تتهم سلطة بورتسودان بـ"تسويق" ملف الفاشر سياسيًا، عبر استخدامه كأداة لإدانة الدعم السريع دون رغبة حقيقية في محاسبة جميع الأطراف على قدم المساواة، وترى مبارك أن رفض الفقرات الأربع الخاصة بالبعثة يوضح غياب الإرادة السياسية في كشف الحقيقة، ويعكس سعيًا للاستفادة من خطاب الإدانة دون تحمل المسؤولية عن المخالفات التي حدثت في مناطق سيطرة الجيش.

وتحذّر من أن هذا النهج قد يرسّخ مفهوم الإفلات من العقاب، ليس فقط في جرائم الفاشر بل في الجرائم المرتكبة على امتداد الجغرافيا السودانية منذ اندلاع الحرب.

صفعة سياسية: الدعم السريع يرحّب بالبعثة


في مفارقة لافتة، أعلن تحالف "تأسيس"، الذي تقوده قوات الدعم السريع، موافقته على دخول بعثة التقصي، هذا القبول، كما يرى المراقبون، مثّل صفعة معنوية وسياسية لسلطة بورتسودان، التي ظهرت في موقف الرافض بينما بدا خصمها "أكثر تعاونًا" أمام المجتمع الدولي.


السفير والدبلوماسي المخضرم الصادق المقلي وصف موقف بورتسودان بأنه "متناقض وغريب"، مشيرًا إلى أن المندوب السوداني لم يطلب إحالة القرار للتصويت، رغم أن قواعد العمل الدبلوماسي تتيح له ذلك، وبحسب المقلي، فإن بعض الدول أوحت للوفد السوداني بأن التصويت قد ينتهي بهزيمة محرجة، وأن الرفض قد يُفهم باعتباره تشكيكًا في الانتهاكات نفسها.

تداعيات القرار وارتداداته الدولية


يرى محللون أن رفض بورتسودان يعمّق الأزمة السياسية للسلطة الانتقالية، ويضعها في مواجهة مفتوحة مع المنظمات الحقوقية والدول الضاغطة، كما أنه يمنح قوات الدعم السريع فرصة لتعزيز صورتها الدولية عبر الظهور بمظهر الطرف الأكثر استعدادًا للتعاون.


غير أن قبول التعاون مع تحالف “تأسيس” يضع المجتمع الدولي أمام مأزق جديد، وفق صباح الحسن، إذ قد يُفهم ذلك باعتباره اعترافًا غير مباشر بشرعية التحالف، وهو ما قد يعقّد أي مسار سياسي لاحق، بينما قد تؤدي مقاطعته إلى تعريض حياة المدنيين للخطر في المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع.


هكذا يجد السودان نفسه أمام مشهد بالغ التعقيد، سلطة تخشى التحقيق الشامل، وقوة مسلحة تستثمر الترحيب بالتحقيق لتحسين موقعها الدولي، ومجتمع دولي يسعى لتجنّب الانحياز دون التضحية بحماية المدنيين.