النكبة الثانية.. عملية تهجير إسرائيلية ترسم مستقبلًا بلا غزة
النكبة الثانية.. عملية تهجير إسرائيلية ترسم مستقبلًا بلا غزة

في أكبر عملية تهجير قسري منذ نكبة عام 1948، تمضي إسرائيل بخطى متسارعة نحو فرض واقع جغرافي جديد في قطاع غزة، عبر خطة عسكرية مُمنهجة تقوم على تفريغ المناطق من سكانها قطعةً تلو الأخرى، وتحويل القطاع إلى شبكة من "الجيوب المحاصرة".
تستند هذه الخطة إلى أوامر إخلاء متلاحقة، وممرات عسكرية تقطع أوصال المدن، ومناطق محظورة يُمنع الوصول إليها، وبهذا الأسلوب، يتم تكديس أكثر من مليوني نسمة في رقعة جغرافية تتناقص يومًا بعد يوم، لا تتوفر فيها شروط الحياة الأساسية من غذاء وماء ومأوى، وسط انهيار شبه كامل للبنية التحتية.
وفي ظل غياب أي أفق سياسي أو ضمانات دولية، يجد السكان أنفسهم أمام خيارين كلاهما مر: النزوح المتكرر إلى أماكن غير آمنة، أو التمسك بأرضهم تحت القصف، فيما تبدو الخطة وكأنها محاولة لإعادة رسم خارطة غزة بالقوة، لا تترك للفلسطينيين سوى البقاء تحت السيطرة الكاملة أو الرحيل خارج حدود القطاع.
*تجفيف ديمغرافي*
منذ انتهاء وقف إطلاق النار منتصف مارس 2025، لم تعد حدود غزة هي تلك التي يعرفها العالم، فما ترسمه الآليات الإسرائيلية على الأرض، مدعومة بأوامر إخلاء متواصلة، يعيد تعريف الجغرافيا الفلسطينية على نحو أكثر قسوة: مدن تُمحى، قرى تُخلى، وممرات عسكرية تُفتَت بها وحدة القطاع.
الجيش الإسرائيلي أصدر منذ 18 مارس أكثر من 31 أمر إخلاء، بمعدل يصل إلى أمرين يوميًا، شملت نحو 80% من القطاع، فيما يبدو أقرب إلى خطة «تجفيف ديمغرافي» تنقل الكثافة السكانية تدريجيًا نحو أقصى الجنوب، وتحديدًا إلى منطقة "المواصي"، التي كانت يومًا ما أراضي زراعية هادئة، وأصبحت اليوم الأكثر اكتظاظًا في غزة، بمأوى هش لـ116 ألف نازح.
*"ممرات الغزو": إعادة رسم القطاع بالقوة*
المشهد الحالي ليس عشوائيًا، بل يُدار بخريطة عسكرية واضحة المعالم، أربعة ممرات أنشأها الجيش الإسرائيلي حتى الآن، أبرزها "ممر موراغ" الذي يشق مدينة رفح من وسطها ويقسم القطاع فعليًا إلى نصفين وفقًا لـ"CNN"، كل ممر يعني هدمًا للمنازل، وتجريفًا للمزارع، وتفريغًا للمناطق السكنية.
ترافق ذلك مع توسعة المنطقة العازلة إلى عمق 2-3 كيلومترات من حدود غزة، وتحويل البحر إلى منطقة محظورة تمامًا، عبر استهداف الصيادين وتدمير قواربهم.
ووفق تقارير أممية، فإن 60% من مباني غزة دُمرت، و92% من المنازل لم تعد صالحة للسكن، كما تعرضت 80% من المحاصيل الشجرية و65% من البيوت الزراعية للتلف، ما جعل الزراعة، آخر قلاع البقاء، تنهار بدورها.
تُظهر صور الأقمار الصناعية، أن 68% من الطرق باتت غير سالكة، ما يعوق إيصال المساعدات، ويحوّل التنقل اليومي إلى رحلة محفوفة بالمخاطر وسط الأنقاض ونقاط التفتيش العسكرية.
*النكبة تعود بأسماء جديدة*
النكبة التي هزّت فلسطين عام 1948 لم تعد ذكرى، بل تجربة يومية تتكرر، فبحسب المجلس الدنماركي للاجئين، نزح سكان غزة منذ بدء الحرب في أكتوبر 2023 بمعدل ست مرات على الأقل، وبعضهم طُرد من أماكنه أكثر من 19 مرة، وكلما اتجهوا جنوبًا، لاحقهم القصف والإخلاء، ومعه صدمة الجيل والذاكرة.
في خيمة مشتركة يعيش عبد الناصر صيام مع 22 فردًا من عائلته في شمال غزة، يرفض مغادرة أرضه رغم الأوامر، قائلاً: "هذه أرضنا، ولن نتركها. سنقاوم، وسنعيش على أرضنا"، وفقًا لـ"سي إن إن"، ووصفت كلماته بأنها تعكس تمسكًا جماعيًا بالحق في البقاء، وسط سياسة تسعى لفرض واقع "الطرد التدريجي" دون إعلان رسمي.
*تراكم الضغط.. وانفجار الردود الدولية*
مع اتساع رقعة الإخلاء، تزداد الانتقادات الدولية حدّة، بريطانيا وفرنسا وكندا هددت باتخاذ "إجراءات ملموسة"، قد تشمل عقوبات، إذا واصلت إسرائيل حملتها العسكرية ومنعها المساعدات الإنسانية.
لكن تل أبيب تبدو غير مبالية، إذ أكد نتنياهو أن "جميع مناطق القطاع ستكون في نهاية المطاف تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية".
وتحت هذا السقف من التجاهل، تستمر معاناة المدنيين، أكثر من نصف مليون شخص مهددون بالمجاعة، رغم دخول شحنات ضئيلة عبر معبر كرم أبو سالم.
أما المساعدات، فهي تتأخر، أو تتلف، أو تُمنع، وتبقى غزة، بكل بساطة، رهينة خريطة يُعاد رسمها بالحديد والنار.