أموال طهران تتبخر.. رحلة الانهيار الصامت لقدرات حزب الله المالية

أموال طهران تتبخر.. رحلة الانهيار الصامت لقدرات حزب الله المالية

أموال طهران تتبخر.. رحلة الانهيار الصامت لقدرات حزب الله المالية
حزب الله

لم يكن التعليم يومًا مجرّد خدمة اجتماعية لدى حزب الله، بل أداة استراتيجية لترسيخ الولاء وبناء امتداد طويل الأمد داخل بيئته الحاضنة، لكن في مشهد غير مألوف، يتلقى أولاد القتلى الذين سقطوا في ساحات الحزب المتعددة، من الجنوب إلى القصير، بلاغات مفادها، انتهت التغطية، هكذا قررت "مؤسسة الشهيد"، ذراع الرعاية المركزية لحزب الله، أن توقف دفع الأقساط الجامعية لعائلات القتلى، في إجراء تقشفي غير مسبوق، يعكس أزمة مالية خانقة تضرب الحزب في العمق، فما كان يُعتبر "حقًا مكتسبًا" لعائلات الشهداء، بات اليوم رفاهية لا تحتملها ميزانية الحزب التي لطالما اعتمدت على الدعم الإيراني غير المشروط، وبين انكماش التمويل الخارجي، ومحاصرة الطرق البرية والجوية، يبدو أن حزب الله أمام معادلة جديدة، الحفاظ على صورته العسكرية مقابل التخلّي عن رصيده الاجتماعي.

لا دعم


في سابقة لافتة، بدأ حزب الله بإبلاغ عدد من عائلات عناصره القتلى بتوقف تغطية الأقساط الجامعية لأولادهم في الجامعات الخاصة، محدثًا صدمة في الأوساط التي طالما اعتبرت هذه المخصصات جزءًا من "العقد الاجتماعي" بين الحزب وبيئته.

هذه الخطوة، التي شملت أبناء القتلى في معارك تمتد من حربه مع إسرائيل في الثمانينات وحتى الحرب السورية، مرّت بصمت إعلامي داخلي، لكنها سرعان ما تسربت إلى العلن، كاشفة عن أحد أقسى أوجه الأزمة المالية التي يعيشها الحزب منذ عقود.

المعني بالإبلاغ كان "مؤسسة الشهيد"، ذراع الرعاية الأهم في منظومة حزب الله الاجتماعية، والتي تموّل من خزائن الحزب المباشرة، وغالبًا من الدعم الإيراني.

منذ تأسيسها، كانت المؤسسة تقدم لأبناء "الشهداء" حرية اختيار الجامعة الخاصة التي يرغبون بها، متكفّلة بكافة المصاريف، من رسوم تسجيل إلى كلفة الإقامة والنقل.

أما اليوم، فلم يعد يُسمح لهم سوى بالالتحاق بالجامعة اللبنانية الرسمية، أو بـ"جامعة المعارف" التابعة للحزب، مع اقتصار الدعم على رسوم التسجيل فقط.

خطة الترشيد


ويبدو أن هذا القرار لا يقتصر على التعليم الجامعي فقط، بل ينسحب على التعليم المدرسي أيضًا، فقد بات لزامًا على أولاد القتلى التسجيل في مدارس الحزب الخاصة، مثل: "المهدي" و"المبرات"، وسط تقييد حرية الاختيار.

وحتى في القطاع الصحي، ضاق نطاق التغطية ليشمل فقط المستشفيات والمراكز التابعة للحزب؛ مما يُنذر بمزيد من التقلص في الخدمات الاجتماعية.

يقول مراقبون: إن هذه الإجراءات تندرج تحت عنوان: "خطة الترشيد"، وهي تعبير ملطف لواقع مالي متدهور، يتعرض فيه الحزب لحصار مزدوج: تقليص الدعم الإيراني من جهة، وتراجع قدرته على تمويل نفسه عبر شبكات الفساد والمحاصصة في الداخل اللبناني من جهة أخرى.

انقطاع الشرايين الرئيسية للتمويل


يشير المحلل السياسي اللبناني، فادي عاكوم، أن السبب الأبرز للأزمة هو الانقطاع شبه التام لشرايين التمويل التقليدية، بعد إغلاق المعابر البرية من إيران مرورًا بالعراق وسوريا وصولاً إلى لبنان، إلى جانب حظر الطائرات الإيرانية من الهبوط في بيروت منذ فبراير الماضي.

ويضيف عاكوم في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن محاولات الحزب للتعويض عن هذه الخسارة من خلال إدخال الأموال بطرق غير مباشرة لم تنجح في تلبية الاحتياجات المتراكمة.

الأخطر، وفق عاكوم، أن التقليص طال حتى البنية العسكرية، إذ تم الاستغناء عن عدد من المقاتلين المقيمين في مناطق بعيدة لتقليص كلفة السكن والنقل، كما بدأ الحزب بإعادة توزيع عناصره ضمن مناطقهم الأصلية كجزء من خفض النفقات.

هذا التحوّل الاستراتيجي في أولويات الصرف يعكس أزمة هوية داخل الحزب، الذي بنى جزءًا كبيرًا من شرعيته ليس فقط على مقاومة إسرائيل، بل على شبكة واسعة من الخدمات والرعاية الاجتماعية التي تميّزه عن باقي القوى اللبنانية.

الآن، ومع انحسار تلك الخدمات، يُطرح السؤال حول قدرة الحزب على الحفاظ على تماسك بيئته الداخلية.

ضربات موجعة


يرى المحلل السياسي اللبناني طارق أبو زينب، أن قرارات حزب الله الأخيرة تُعد مؤشرًا واضحًا على بلوغ الأزمة المالية مرحلة لا يمكن إخفاؤها أو معالجتها عبر الإجراءات التجميلية السابقة.

وأضاف أبو زينت -في تصريحات لـ"العرب مباشر"-، طالما كان الحزب يحافظ على هالة من "الاكتفاء الذاتي"، مدعومًا بدفعات مالية دورية من إيران، لكن المتغيرات الإقليمية، وعلى رأسها الصراع الإيراني- الإسرائيلي في سوريا والتضييق الغربي، بدأت تنعكس بوضوح على موارده.

ويشير أبو زينب، أن انقطاع المسار البري الإيراني بات ضربة موجعة لحزب الله، تزامنًا مع قرار رسمي يمنع الطائرات الإيرانية من استخدام مطار بيروت، ما أفرغ قنوات التمويل الرئيسية من محتواها، ولم تنجح محاولات إدخال الأموال بوسائل بديلة كالتجارة والتهريب عبر المعابر، في تعويض الفجوة.

الأهم، بحسب المحلل السياسي اللبناني، أن الحزب بدأ يتخلى عن أولوياته الاجتماعية تدريجيًا، ويعيد توجيه موارده نحو الحفاظ على الكتلة العسكرية والهيكل التنظيمي، وهو ما قد يثير ردود فعل اجتماعية لم يختبرها من قبل، خاصة من عائلات المقاتلين.

 ويضيف: "ربما تكون هذه بداية التحول من حزب مقاومة ورعاية إلى حزب مقاومة فقط مع كل ما يحمله ذلك من تداعيات".