إعمار مشروط ونفوذ متآكل.. حزب الله في مواجهة الحقيقة الانتخابية
إعمار مشروط ونفوذ متآكل.. حزب الله في مواجهة الحقيقة الانتخابية

بين شوارع مدمّرة وقرى أنهكها القصف، يذهب الجنوبيون اللبنانيون إلى صناديق الاقتراع لاختيار مجالسهم البلدية، في لحظة مشبعة بالرمزية السياسية والاجتماعية. ليست هذه انتخابات تقليدية، بل مشهد درامي، حيث تتحوّل صناديق الاقتراع إلى ساحات اختبار لنفوذ حزب الله بعد حرب مدمرة مع إسرائيل خاضها باسم "نصرة غزة".
وفيما يتجوّل الناخبون بين ركام منازلهم، تتجول أيضًا أسئلة معلقة حول مصير السلاح، ودور الحزب، ومستقبل الجنوب الذي ما يزال يئن تحت وطأة الدمار، الرسائل من المانحين الدوليين واضحة: لا إعمار بلا نزع السلاح. والحزب يرد: الحكومة هي المسؤولة.
هذا التوتر يجعل من الانتخابات البلدية استحقاقًا يتجاوز حدود المجالس المحلية ليصبح عنوانًا لمعركة كبرى على وجه لبنان القادم، وسط صمت دولي مشوب بالترقب، ومواطنين لا يملكون ترف الانتظار.
معركة سياسية
مع بدء الانتخابات البلدية في جنوب لبنان، تنكشف أمام المراقبين معركة سياسية أعمق بكثير من مجرد استحقاق إداري محلي. إنها المرة الأولى التي تُجرى فيها انتخابات في المنطقة منذ الحرب العنيفة التي اندلعت في أكتوبر 2023 بين حزب الله وإسرائيل، وانتهت بتدخل دولي أفضى إلى وقف هشّ لإطلاق النار.
فالمعركة الانتخابية هذه لا تدور فقط حول اختيار رؤساء بلديات، بل حول مستقبل النفوذ السياسي لحزب الله، وسلاحه، وعلاقته بالدولة اللبنانية.
رغم الدمار الشامل الذي لحق ببلدات الجنوب وتهجير آلاف السكان، انتشرت في المدن والقرى ملصقات دعائية لحزب الله تحث المواطنين على التصويت له، في محاولة لإثبات أنه ما يزال حاضرًا بقوة في المزاج الشعبي رغم الخسائر البشرية والعسكرية الكبيرة التي تكبّدها.
وقد تزايدت في الآونة الأخيرة الضغوط الإقليمية والدولية لنزع سلاح الحزب كشرط أساسي لإطلاق عملية إعادة الإعمار، وهو ما ترفضه قيادة الحزب بشدة، معتبرة أنه انتقاص من "مقاومتها".
نزع السلاح
وبينما تؤكد الحكومة اللبنانية الجديدة أنها تسعى لحصر السلاح بيد الدولة، في التزام ببنود اتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته الولايات المتحدة، يحذّر حزب الله من أن نزع سلاحه في هذه المرحلة قد يؤدي إلى "كسر التوازن الوطني"، وفق تعبير قياداته.
ويرى خصوم الحزب، أن السلاح لم يعد يُستخدم للدفاع، بل لفرض أمر واقع سياسي وعسكري داخل الدولة اللبنانية، كما حمّلوه مسؤولية الانجرار المتكرر نحو مواجهات مع إسرائيل دون توافق وطني.
في هذا السياق، أعلن وزير الخارجية يوسف راجي، أن المجتمع الدولي لن يقدّم أي مساعدات لإعادة الإعمار ما لم يتم التحقق من أن السلاح أصبح بيد الدولة وحدها.
وأضاف: أن الرسائل من العواصم الغربية كانت واضحة وصريحة، ولا مجال لتأويلها.
هذه التصريحات أعادت إلى الأذهان تجربة عام 2008 حين تسبّب سلاح حزب الله باشتباكات داخلية قصيرة، لكنها حاسمة، في بيروت، وأعادت رسم خطوط النفوذ.
في المقابل، ألقى الحزب بمسؤولية الإعمار على الحكومة، مشيرًا إلى تقصيرها في التحرك، رغم الوعود المتكررة، وهو موقف عبّر عنه بوضوح النائب حسن فضل الله، الذي حذر من أن التباطؤ قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات، متسائلًا ما إذا كان من المنطقي أن تنعم مناطق بالاستقرار في حين تعيش أخرى في الخراب.
تكلفة إعادة الإعمار
وتشير تقارير صادرة عن منظمات دولية، أن تكلفة إعادة الإعمار في الجنوب قد تتجاوز 11 مليار دولار، وفق تقديرات أولية للبنك الدولي.
ومع أن بعض البلدات بدأت برفع الأنقاض، إلا أن العمليات ما تزال في مراحلها الأولى، وسط شح في التمويل، وتردد لدى الجهات المانحة.
ويرى مهند الحاج علي، الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، أن ربط ملف إعادة الإعمار بنزع سلاح حزب الله هدفه تسريع الحل السياسي، لكن هذه المقاربة قد تكون محفوفة بالمخاطر في ظل رفض الحزب تقديم أي تنازلات قبل ضمانات واضحة، ليس فقط لإعادة الإعمار، بل أيضًا للحفاظ على "دوره في المعادلة الوطنية".
ويطرح الوضع في الجنوب معادلة معقدة، هل يمكن أن يُعاد بناء ما دمرته الحرب بينما ما تزال جذورها قائمة، وكيف يمكن إجراء إصلاحات اقتصادية وانمائية في بلد تُمسك به قوى مسلحة خارجة عن سلطة الدولة.
مراقبون أكدوا أن الانتخابات البلدية الجارية ليست فقط مناسبة ديمقراطية محلية، بل محطة مفصلية في اختبار مدى استعداد لبنان للدخول في مرحلة جديدة من الحكم المدني، الخالي من منطق الميليشيات.