مشعر منى.. شاهد على سنن الأنبياء وذاكرة الحج
مشعر منى.. شاهد على سنن الأنبياء وذاكرة الحج

يقف مشعر منى، الواقع بين مكة المكرمة ومزدلفة، كأحد أبرز المعالم المقدسة التي ترتبط بموسم الحج، ويشكل محطة روحانية تستحضر في تفاصيلها سيرة الأنبياء وأفعالهم.
من على ترابه خطا إبراهيم الخليل، ومن بين جباله رمى الشيطان بالجمرات، وعلى أرضه ذبحت الأضاحي وترددت أصوات التكبير، حتى أصبح شاهدًا خالدًا على تعاقب النسك وتوارث الإيمان.
"منى"، التي تبعد نحو 7 كيلومترات عن المسجد الحرام، تحتضن الحجاج في أيام التشريق، حيث يؤدون فيها شعائر عظيمة كالرمي والنحر والحلق، وتغدو أوديتها مسرحًا لصورة إيمانية تجسد التجرد الكامل من الدنيا والانشغال بما يرضي الله.
وفي موسم حج 2025، واصلت المملكة العربية السعودية تنفيذ خططها الطموحة لتقديم أفضل الخدمات لضيوف الرحمن، حيث سخّرت كافة إمكاناتها البشرية والتقنية واللوجستية لضمان راحة الحجاج وسهولة أدائهم للمناسك.
وبرزت في هذا العام حلول ذكية مثل أنظمة تتبع الحشود بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وزيادة عدد الحافلات المخصصة للنقل الترددي، وتحسين البنية التحتية للمخيمات في منى ومزدلفة وعرفات، فضلاً عن جاهزية المستشفيات والمراكز الصحية المنتشرة في المشاعر.
تحول عمراني لخدمة ملايين الحجاج
وعلى مدى العقود، تطور مشعر منى من وادي تنصب فيه خيام القماش المؤقتة، إلى مدينة متكاملة بمواصفات عصرية، وهناك أكثر من 100 ألف خيمة مقاومة للحرارة والاشتعال، ومجهزة بأنظمة تكييف وخدمات، تنتظم فوق مساحة تفوق 2.5 مليون متر مربع، وتشكل منظومة إيواء هي الأكبر من نوعها عالميًا، وفق ما أفادت به وكالة الأنباء السعودية "واس".
وتعمل هذه البنية التحتية على ضمان أعلى مستويات الراحة والسلامة لضيوف الرحمن، مع نظام ترقيم دقيق يسهل الوصول، وخدمات لوجستية وصحية وأمنية متكاملة، تجعل من منى مدينة مؤقتة نابضة بالحياة، يتجلّى فيها التنظيم الحديث والعناية المتواصلة بضيوف بيت الله الحرام.
جسر الجمرات.. نموذج هندسي لإدارة الحشود
ومن أبرز معالم منى، يأتي جسر الجمرات كأعجوبة هندسية تنظم واحدة من أكثر الشعائر زخمًا، بطول يصل إلى 950 مترًا وعرض 80 مترًا، يتكوّن الجسر من عدة طوابق ويستوعب أكثر من 300 ألف حاج في الساعة. يتيح الجسر للحجاج رمي الجمرات الثلاث – الصغرى والوسطى والكبرى – بسهولة وانسيابية، مع تقنيات متطورة لرصد الكثافات وتفويج الحشود في أوقات الذروة.
ويحتوي الجسر على مداخل ومخارج متعددة، سلالم كهربائية، ممرات للطوارئ، ونظام تبريد يعتمد على الرذاذ المائي، إلى جانب نقاط إسعاف ومرافق استراحة ومظلات، في صورة تعكس التقدم في إدارة الحشود وحماية الأرواح.
مسجد الخيف.. عبق السيرة وعبادة الأنبياء
وفي قلب منى، يتربع مسجد الخيف، حيث صلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو بذلك أحد أبرز المعالم الدينية في المشاعر، وتبلغ مساحته 23,500 متر مربع، ويتسع لأكثر من 27 ألف مصلي، ويضم 4 مآذن و9 أبواب رئيسة، ويعد نقطة استحضار لسنن النبوة ورباطًا بين الماضي والحاضر.
منى عبر العصور.. من البدايات إلى الرؤية
ظل مشعر منى حاضنًا لروح الشعيرة منذ العهد النبوي، وتعاقب الخلفاء والولاة على العناية به، حتى جاء التحول النوعي على يد المملكة العربية السعودية، التي جعلت من تطويره جزءًا من رؤية شاملة تهدف إلى توفير تجربة حج آمنة وميسّرة.
يبقى مشعر منى أكثر من مكان؛ إنه ميدان تلتقي فيه السماء بالأرض، وتُروى فيه قصص التضحية والطاعة، ويتجلّى فيه الذكر والتضرع، في أيام تعد من أعظم أيام الله، فمن على ترابه، يخرج الحجاج وقد تجددت أرواحهم، واستلهموا من ذاكرته الإيمانية طهارة النسك وعظمة الرسالة.
مشعر منى لم يكن يومًا مجرد بقعة جغرافية بين الجبال، بل ظل عبر القرون شاهدًا على لحظات إيمانية خالدة، تختزل فيها مشاعر الطاعة والتجرد والخضوع لله، وتُجسد فيها رمزية التضحية ومواقف الأنبياء.