موت بلا إنذار.. كيف تحوّلت مراكز الإغاثة في غزة إلى ساحات قتل جماعي؟
موت بلا إنذار.. كيف تحوّلت مراكز الإغاثة في غزة إلى ساحات قتل جماعي؟

في غزة، لا تُقرع أجراس الإنذار فقط عند اقتراب الغارات، بل أيضًا عند اقتراب موعد توزيع المساعدات الغذائية. فمع كل يوم جديد، يتقلص الفارق بين الموت قصفًا والموت جوعًا، ويتحول البحث عن كيس دقيق أو علبة حليب إلى مغامرة دامية، السبت الدامي كان مثالاً صارخًا: 23 قتيلاً بينهم أطفال، سقطوا في موجة جديدة من الضربات الإسرائيلية، بعضها استهدف مدنيين ينتظرون معونات غذائية، في مشهد يتكرر ويزداد قسوة.
في المقابل، تواجه مؤسسة "غزة الإنسانية" انتقادات لاذعة وسط اتهامات بالفوضى وسوء إدارة توزيع الإغاثة، فيما تدفع الأمم المتحدة بصرخة مدوّية تحذّر من كارثة إنسانية لم يعد بالإمكان كبح جماحها، وبين روايات متضاربة، وجثث متزايدة، وأطفال يتساقطون من سوء التغذية، تترسّخ معادلة قاتمة: غزة لم تعد فقط ساحة حرب، بل مختبرًا مفتوحًا لانهيار القيم، حيث المأساة تتضاعف مع كل وجبة مؤجلة أو إسعاف عاجز.
*جحيم الطوابير*
مع تصاعد الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة، يعيش الفلسطينيون بين سيناريوهين لا يقل أحدهما كارثية عن الآخر: نيران الغارات الجوية، أو جحيم الطوابير الطويلة أمام مراكز توزيع المساعدات التي أضحت هي الأخرى أهدافًا محتملة للقصف أو للفوضى.
ففي بلدة جباليا، شمال القطاع، استهدفت غارة جوية منزلاً مأهولاً، لتودي بحياة 21 شخصًا، بينهم ثلاثة أطفال، بحسب الناطق باسم الدفاع المدني في غزة، محمود بصل في تصريحات لـ"فرانس برس".
وفي الوقت ذاته، قُتل فلسطينيان على الأقل وأُصيب آخرون أثناء انتظارهم لمساعدات غذائية في نقطة توزيع بين مفترق الشهداء وجسر وادي غزة، في حادثة تكررت مرارًا منذ بدء العمل بما يُعرف بـ"نظام المساعدات الجديد".
الهجمات التي طالت 12 منزلاً فجّرها الجيش الإسرائيلي فجر السبت في خان يونس، إضافة إلى تدمير منازل أخرى في حي الزيتون بمدينة غزة، دفعت وزارة الصحة إلى إعلان حصيلة دموية: 81 قتيلاً و422 جريحًا خلال 24 ساعة فقط.
الوزارة أوضحت، أن الطواقم الطبية تواجه صعوبات شديدة في الوصول إلى الجرحى بسبب تدهور الوضع الميداني، ما يفاقم عدد الضحايا.
*اعترافات صادمة*
ورغم محاولات الجيش الإسرائيلي تبرير قصفه لمناطق سكنية عبر بيانات تتحدث عن "مواقع تستخدمها الفصائل المسلحة"، إلا أن الصور والتقارير على الأرض تروي حكاية مختلفة.
أحد أكثر التقارير إثارة للجدل ما نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، نقلاً عن جنود لم تذكر أسماءهم، قالوا: إنهم تلقوا أوامر بإطلاق النار على مدنيين يتجمعون حول مواقع توزيع المساعدات.
ورغم نفي الحكومة الإسرائيلية لهذا التقرير، واعتباره "افتراءً خبيثًا"، إلا أن تصريحات الأمم المتحدة وتقارير وزارة الصحة الفلسطينية تؤكد وجود نمط متكرر من استهداف المدنيين في تلك المواقع.
*الحكم بالإعدام*
وفي ظل هذا المشهد الدامي، تبرز مؤسسة "غزة الإنسانية"، التي تتولى توزيع الإغاثة، كلاعب مثير للجدل، رئيسها، جوني مور، دافع عن أداء المؤسسة في مقابلة تلفزيونية، نافيًا وجود أدلة على استهداف المنتظرين قرب مواقعها.
لكنه أقر بأن العملية "غير كافية"، رغم مضاعفة عدد الوجبات الموزعة. ومع ذلك، قالت وزارة الصحة: إن أكثر من 500 فلسطيني قُتلوا وأُصيب قرابة 4,000 آخرين أثناء محاولتهم الحصول على مساعدات منذ بدء عمل المؤسسة؛ ما دفع الأمم المتحدة إلى انتقاد هذا النظام بشكل مباشر.
الأمين العام أنطونيو غوتيريش وصفه بأنه "غير آمن بطبيعته"، مشيرًا أن توجيه المدنيين إلى مناطق عسكرية يعادل الحكم عليهم بالإعدام.
وفيما يستمر الجدل الإنساني، يتفاقم الوضع الصحي بشكل خطير. فوفق منظمة الصحة العالمية، يُنقل يوميًا أكثر من 100 طفل لتلقي العلاج من سوء التغذية، وارتفع عدد وفيات الأطفال بسبب الجوع إلى 66، في حين تعمل فقط 17 مستشفى من أصل 36 في القطاع، معظمها بشكل جزئي.
المدير العام للمنظمة، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، أكد أن شمال القطاع ومدينة رفح تفتقران كليًا إلى الرعاية الطبية.
من جانبه، يقول د. ماهر صافى المحلل السياسى الفلسطينى: إن ما يجري في قطاع غزة يتجاوز حدود الكارثة الإنسانية إلى كونه "جرمًا ممنهجًا تشارك فيه عدة أطراف"، مشيرًا أن استهداف المدنيين، سواء عبر القصف المباشر أو من خلال تعطيل إيصال المساعدات الإنسانية، يعكس محاولة إسرائيلية لتركيع المجتمع الفلسطيني وإضعاف صموده بوسائل التجويع والترهيب.
ويضيف صافي في حديثه لـ"العرب مباشر": أن نظام المساعدات الذي تشرف عليه مؤسسة غزة الإنسانية لم يُخفّف الأزمة، بل ساهم في مفاقمتها، نظرًا لغياب التنسيق مع المؤسسات المحلية وافتقاده للضمانات الأمنية والشفافية.
ويحذر صافي من أن استمرار الفوضى حول نقاط توزيع المعونات لا يخدم سوى مشروع الاحتلال، الذي يحاول تشتيت البنية المجتمعية في غزة وضرب الثقة بين المواطنين والمؤسسات الدولية.
كما يشير أن "سقوط مئات القتلى والجرحى أثناء محاولاتهم الحصول على الغذاء يؤكد أن هناك فشلاً دوليًا وأمميًا ذريعًا في تحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية".
ويختتم بالقول: إن غزة اليوم لا تحتاج فقط إلى هدنة، بل إلى تدخل دولي حقيقي لفرض حماية إنسانية عاجلة، تبدأ بفتح المعابر، وتأمين الغذاء والدواء، وإنهاء هذا الشكل المروع من العقاب الجماعي.
*إمكانية وقف الحرب*
في هذا السياق، تترقب الأنظار زيارة مرتقبة للمبعوث الأميركي دانيال ويتكوف إلى القاهرة، وسط أنباء عن تقدم في مفاوضات التهدئة.
أما الرئيس الأميركي دونالد ترامب فقد لمح إلى إمكانية التوصل لاتفاق "خلال الأسبوع المقبل"، دون تقديم تفاصيل إضافية، أما عن الحصيلة العامة، فقد أعلنت وزارة الصحة في غزة أن إجمالي القتلى منذ 7 أكتوبر 2023 بلغ أكثر من 56 ألفًا، في حين تجاوز عدد الجرحى 133 ألفًا.
ومنذ بداية التصعيد الأخير في 18 مارس 2025، قتل 6,089 شخصاً وأصيب أكثر من 21 ألفًا، وسط هذه الأرقام المفزعة، يبدو أن غزة لم تعد فقط ميداناً للمعارك العسكرية، بل باتت نموذجًا مأساويًا لفشل المنظومة الدولية في حماية المدنيين وتأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة، حيث يتعانق الموت والجوع في مشهد يفتك حتى بالأمل نفسه.