جبايات بلا سقف.. كيف تخنق سياسات الحوثيين ما تبقى من اقتصاد اليمن؟
جبايات بلا سقف.. كيف تخنق سياسات الحوثيين ما تبقى من اقتصاد اليمن؟
في بلدٍ أنهكته الحرب وتآكلت فيه مقومات العيش، لم يعد الاقتصاد ساحة صمودٍ بقدر ما بات ميدان استنزاف مفتوح، فبينما يبحث اليمنيون عن أي نافذة أمل تقيهم السقوط الكامل في العوز، تتكثف الضغوط على القطاع التجاري في مناطق سيطرة جماعة الحوثي، لتضيف عبئًا جديدًا إلى كاهل مجتمعٍ يعاني أصلًا من أزمات متراكمة، لم تعد المشكلة مقتصرة على تراجع الطلب أو شح السيولة، بل تحولت إلى سياسة جبايات متصاعدة، تُفرض بذرائع متعددة، وتُدار بعقلية لا ترى في النشاط التجاري سوى مصدر تمويل.
تقرير دولي حديث يعيد تسليط الضوء على هذه الممارسات، كاشفًا عن آثارها العميقة على الشركات الصغيرة والمتوسطة، وعلى سوق العمل، وعلى الأمن الغذائي لملايين اليمنيين، فالمسألة لم تعد أرقام ضرائب ورسوم، بل مستقبل اقتصاد محلي يُدفع تدريجيًا نحو الشلل.
معادلة قاسية
يُظهر تقرير حديث صادر عن شبكة الإنذار المبكر للاستجابة للمجاعة (FEWS NET) صورة قاتمة للاقتصاد في المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي، حيث تتواصل الإجراءات المالية المشددة بوتيرة متسارعة، مستهدفة مختلف الأنشطة التجارية دون تمييز.
ووفقًا للتقرير، فإن هذه السياسات لم تعد إجراءات استثنائية، بل تحولت إلى نهج دائم يقوم على فرض زيادات متلاحقة في الضرائب والرسوم، ما خلق حالة من الاختناق داخل القطاع الخاص.
التجار، الذين يشكلون العمود الفقري للنشاط الاقتصادي الحضري، وجدوا أنفسهم أمام معادلة قاسية، إما الامتثال لرسوم متزايدة تفوق قدرتهم التشغيلية، أو الإغلاق والخروج من السوق.
ويشير التقرير إلى أن مئات الشركات الصغيرة والمتوسطة باتت مهددة بالزوال، فيما أُجبرت بالفعل أعداد كبيرة منها على إغلاق أبوابها خلال الأشهر الماضية، بعد أن استُنزفت احتياطاتها المالية وتراجعت قدرتها على الاستمرار.
ولا تقتصر هذه الجبايات على الضرائب التقليدية، بل تمتد إلى رسوم إضافية تُفرض تحت مسميات متعددة، من بينها دعم الإنتاج المحلي، في حين يرى التجار أن هذه الذرائع تخفي وراءها عملية ابتزاز مالي منظم.
التسريح والإغلاق
ومن أبرز الإجراءات التي فاقمت الأزمة، فرض ضريبة جمركية بنسبة 100% على السلع غير الغذائية المستوردة؛ ما أدى إلى ارتفاع حاد في تكاليف الاستيراد، انعكس مباشرة على أسعار البيع، ودفع المستهلكين إلى تقليص إنفاقهم، أو الامتناع عنه كليًا.
هذا التراجع في الطلب، بالتوازي مع ارتفاع التكاليف التشغيلية، أصاب قطاعات حيوية مثل المطاعم والمتاجر والفنادق وبيع التجزئة بحالة ركود حاد، ومع تقلص هوامش الربح إلى حدها الأدنى، لم يعد بمقدور كثير من أصحاب الأعمال تغطية الإيجارات أو أجور العمال، ما سرّع وتيرة التسريح والإغلاق.
التقرير يلفت أيضًا إلى تجاهل جماعة الحوثي لمطالب التجار المتكررة بمراجعة هذه السياسات، رغم الاحتجاجات المحدودة التي شهدتها صنعاء خلال الأسابيع الماضية.
هذا التجاهل يعكس، بحسب مراقبين، قطيعة متزايدة بين سلطة الأمر الواقع والقطاع الخاص، الذي لطالما لعب دورًا حيويًا في توفير السلع وفرص العمل.
تحذيرات من آثار اقتصادية مدمرة
الانعكاسات الاجتماعية لهذه السياسات لا تقل خطورة عن آثارها الاقتصادية، إذ يحذر التقرير من تراجع غير مسبوق في فرص العمل، خصوصًا في الأعمال اليومية والحرة، التي تعتمد عليها شريحة واسعة من الأسر الفقيرة والمتوسطة. ومع تقلص هذه الفرص، تآكلت الدخول بشكل حاد، وتراجعت القدرة الشرائية للسكان، ما عمّق دائرة الفقر.
ويشير التقرير إلى أن استمرار هذا المسار سيؤدي، على الأرجح، إلى تقليص قدرة الأسر حتى على الحصول على الغذاء عبر آليات اعتادت عليها خلال سنوات الحرب، مثل الشراء بالتقسيط أو الاستدانة من المتاجر المحلية، ومع تراجع قدرة التجار أنفسهم على تقديم هذه التسهيلات، تتقلص خيارات التكيف أمام الأسر، لتصبح أكثر عرضة لانعدام الأمن الغذائي.
في هذا السياق، يتوقع التقرير استمرار حالة الأزمة الغذائية الواسعة في اليمن، المصنفة ضمن المرحلة الثالثة وفق التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، حتى مايو المقبل على الأقل.
ويعزو ذلك إلى ما وصفه بالحرب الاقتصادية التي تقوض النشاط التجاري، وترفع تكاليف المعيشة، وتضعف سوق العمل، في ظل غياب أي مؤشرات على تخفيف الضغوط.
أما في محافظات مثل الحديدة وحجة وتعز، فيرجّح التقرير بقاء الوضع عند مستوى الطوارئ (المرحلة الرابعة)، نتيجة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية، وتراجع الطلب على العمالة، وانحسار مصادر الدخل الأساسية.
هذه العوامل مجتمعة ترسم مشهدًا اقتصاديًا واجتماعيًا بالغ الهشاشة، ينذر بتداعيات طويلة الأمد إذا ما استمرت السياسات الحالية دون تغيير.

العرب مباشر
الكلمات