غزة الجائعة تُذبح عند طوابير الإغاثة.. صناديق المساعدات تحولت إلى أفخاخ موت

غزة الجائعة تُذبح عند طوابير الإغاثة.. صناديق المساعدات تحولت إلى أفخاخ موت

غزة الجائعة تُذبح عند طوابير الإغاثة.. صناديق المساعدات تحولت إلى أفخاخ موت
حرب غزة

في فجر يوم دموي جديد، لم يكن أهالي رفح ينتظرون أكثر من القليل: دقيق، زيت، وربما بعض الأمل، لكن بدلاً من المساعدات، تلقّوا وابلًا من الرصاص، تجمع الفلسطينيون منذ ساعات الصباح الأولى عند نقطة توزيع تديرها "مؤسسة غزة الإنسانية" على أطراف مدينة رفح، مدفوعين بجوع لا يرحم وأمل في بقاء مؤقت، فجأة، تحوّل المكان إلى ساحة مجزرة، حين فتحت وحدات إسرائيلية النار على الحشود، مخلفة 26 قتيلًا على الأقل وعشرات الجرحى، وبينما يروي الشهود فصول الرعب والدم، تنكر إسرائيل مسؤوليتها وتفتح "تحقيقًا"، لكن القصة ليست مجرد حادث عرضي، بل جزء من مأساة أوسع، عنوانها: تجويعٌ ممنهج وقصفٌ تحت راية المساعدات.

*جريمة جديدة*


لم يكن صباح الأحد 1 يونيو مختلفًا في جوهره عن أي صباح آخر في قطاع غزة منذ أشهر، لكن تفاصيله حملت مأساة جديدة، ففي منطقة "المواصي" غرب رفح، حيث أقيمت نقطة توزيع مساعدات غذائية تديرها "مؤسسة غزة الإنسانية"، تسابق المئات من سكان القطاع إلى المكان في ساعات الفجر الأولى، كثير منهم لم يتناول وجبة ساخنة منذ أيام، والبعض الآخر سهر الليل بأكمله كي لا يفوته "الدور".

حوالي الساعة الرابعة صباحًا، بدأ المشهد يتشكّل: رجال يحملون أطفالهم، نساء يحاولن دفع عربات خشبية، شباب يتبادلون الهمسات حول كمية المساعدات، وحراس مسلحون تابعون لشركة أمنية خاصة يشرفون على النظام، ثم، في لحظة واحدة، تغير كل شيء.

"سمعنا دوي انفجارات، ثم تبعتها طلقات نارية، وبدأ الجميع يركض".. يروي أحد الشهود، وهو شاب عشريني كان ينتظر حصته الغذائية.

رأيت أشخاصًا يسقطون واحدًا تلو الآخر. لم نكن نعرف إن كان القصف من الجو أم من الأرض، فقط علمنا أن النيران لم تميز أحدًا.

*تحقيق جارٍ*


وأكد شهود آخرون، أن القوات الإسرائيلية، التي كانت تراقب نقاط التوزيع من مركبات مدرعة قريبة، فتحت النار بشكل مفاجئ، ما أدى إلى مقتل 26 شخصًا وإصابة أكثر من 100، بحسب إحصاءات أولية من الدفاع المدني.

محمود بصل، المتحدث باسم الدفاع المدني، وصف ما حدث بـ"الجريمة البشعة بحق مدنيين جوعى"، مؤكدًا أن المصابين نقلوا إلى مستشفى ناصر في خان يونس وسط ظروف ميدانية بالغة الخطورة، حيث تأخرت سيارات الإسعاف بسبب استمرار إطلاق النار.

في المقابل، لم يصدر الجيش الإسرائيلي بيانًا رسميًا، واكتفى عبر مصادره الخاصة بالإشارة إلى "تحقيق جارٍ" بشأن ما إذا كانت النيران قد أطلقت "ردًا على تهديد أمني من عناصر إرهابية"، وهو تبرير بات مألوفًا منذ بدء الحرب، وسبق استخدامه في عشرات الحوادث المشابهة، التي راح ضحيتها مئات المدنيين.

لكن الحكومة في غزة رأت في الحادث شيئًا آخر، في بيان حاد، وصفت المكتب الإعلامي الحكومي ما جرى بـ"المجزرة المتكررة"، واتهمت إسرائيل باستخدام نقاط توزيع المساعدات كأدوات للحرب النفسية والتجويع الجماعي.

وأضاف البيان: "تحولت نقاط الإغاثة إلى مصائد موت، تحت إشراف شركات أميركية إسرائيلية، وبتنسيق أمني كامل مع جيش الاحتلال، إنها ليست إغاثة بل ابتزاز إنساني"، داعيًا إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة.

*المساعدات: وهم النجاة في جحيم المجاعة*


بدأ فتح نقاط المساعدات في غزة خلال الأسبوع الماضي وكأنه بريق أمل، خاصة أنها جاءت بعد توقف كامل منذ مارس، لكن ذلك البريق سرعان ما تلاشى، حين اتضح أن المساعدات ضئيلة لا تفي بحاجات السكان.

فالصناديق التي توزعها "مؤسسة غزة الإنسانية" تحتوي على: لتر زيت، 2 كغم أرز، 4 كغم دقيق، 1 كغم فاصوليا، 4 علب تونة، جرة ورق عنب، عبوة مربى، 6 عبوات معكرونة، علبة شاي، وعلبة بسكويت.

لكن الصدمة كانت أن هذه الصناديق تفتقر إلى مواد أساسية مثل المياه، الأدوية، الصابون، البطانيات، وأدوات النظافة الشخصية، وحتى مستلزمات الأطفال الرضع غابت تمامًا، تقول وكالة "الأونروا" إن ما يدخل غزة اليوم هو أقل بكثير مما يحتاجه القطاع للبقاء.

"نحن أمام كارثة إنسانية غير مسبوقة"، قالت إيناس حمدان، المتحدثة باسم الأونروا: إن الاحتياجات هائلة، وما يصل هو مجرد إبرة في كومة من الدمار.

تترافق هذه الأزمة مع إغلاق المعابر، وعلى رأسها رفح وكرم أبو سالم، في وقت يعيش فيه سكان غزة في حالة نزوح داخلي مستمر منذ 7 أكتوبر، بين القصف المتواصل في الشمال، وتردي الأوضاع في الجنوب.

*سلاح جديد في حرب قديمة*


من جانبهم، شكك مراقبون في نوايا إسرائيل حيال "إدارة المساعدات"، إذ يجري توزيعها تحت حراسة شركات أمنية أميركية، وفي مراكز محدودة العدد لا تراعي التوزيع الجغرافي العادل.

وترى منظمات إنسانية، أن إسرائيل تستغل هذا النظام للتحكم بالمدنيين، وتحويل الحاجة إلى غذاء إلى ورقة ضغط.

ويرى كثيرون، أن استهداف المدنيين عند نقاط التوزيع، سواء عن طريق القنص أو القصف، يشكل تطورًا خطيرًا في استراتيجيات الحرب، ويكشف عن محاولة لاستخدام الجوع كسلاح من أسلحة الإخضاع.