ثروة القذافي بين وصاية الغرب وصمت طرابلس.. من يحمي كنوز ليبيا المجمدة؟
ثروة القذافي بين وصاية الغرب وصمت طرابلس.. من يحمي كنوز ليبيا المجمدة؟

في دهاليز البيروقراطية الغربية وصالات التشريع في لندن وبروكسل، تعود أموال ليبيا المجمدة لتتصدّر مشهدًا دوليًا معقّدًا تتقاطع فيه السياسة بالاقتصاد، والذاكرة بالتاريخ.
فبعد أكثر من عقد على الإطاحة بمعمر القذافي، ما تزال أكثر من 200 مليار دولار من أصول الدولة الليبية موزعة بين مصارف واستثمارات في الخارج، مجمّدة وفق قرارات أممية كانت تهدف آنذاك إلى "الحماية"، لكنها تحوّلت اليوم إلى ورقة ضغط ومصدر نزاع.
الجديد في المشهد ليس فقط الحديث عن تعويض ضحايا "الجيش الجمهوري الإيرلندي" من تلك الأموال، بل ما يرافقه من مؤشرات على احتمال تقويض السيادة الليبية تحت غطاء العدالة الدولية، وبينما تبدي لندن بوادر تحرك فعلي نحو استخدام جزء من هذه الثروة المجمدة، تتصاعد الأصوات الليبية الرافضة، في ظل غياب دولة موحدة تملك شرعية الدفاع والتفاوض، هذه ليست مجرد قضية مالية، بل امتحان صارخ للسيادة والكرامة الوطنية في وجه أطماع تتجدد مع كل فراغ سياسي.
أصول مجمدة... أم رهائن دولية؟
منذ قراري مجلس الأمن 1970 و1973 في عام 2011، تم تجميد الأصول الليبية في الخارج في سياق انهيار النظام السياسي في البلاد، وبذريعة الحماية من العبث أو الفساد.
لكن هذا التجميد الذي بدأ كإجراء احترازي تحوّل بمرور السنوات إلى مأزق سيادي واقتصادي؛ فقد ظلت تلك الأموال، التي تتجاوز 200 مليار دولار، رهينة في خزائن ومصارف غربية، بينما تغرق ليبيا في أزمات اقتصادية خانقة، وتتنازعها سلطتان متنافستان لا تملكان أدوات الضغط الكافية لاسترداد حقوق الدولة.
وتتوزع هذه الأصول بين أرصدة مصرفية وسندات حكومية واستثمارات استراتيجية، إضافة إلى نحو 144 طنًا من الذهب، أغلبها في أوروبا الغربية، حيث تعتبر لندن وبروكسل من أبرز مراكز الاحتضان لتلك الأموال.
هذه الثروة، التي تُعد إحدى أكبر الأصول المجمدة في التاريخ الحديث، باتت اليوم محور تجاذب سياسي بين أطراف دولية ترى فيها فرصة لتعويض ضحايا صراعات قديمة، وبين الليبيين الذين يعتبرونها ملكًا لشعبٍ أنهكته الحروب والانقسامات.
بريطانيا تفتح الباب لصندوق باندور*
أحدث حلقة من هذا الملف الشائك جاءت من مجلس اللوردات البريطاني، الذي ناقش مؤخرًا مقترحًا يسمح باستخدام جزء من الأرصدة الليبية المجمدة لتعويض ضحايا تفجيرات ارتكبها "الجيش الجمهوري الإيرلندي" خلال فترة السبعينات والثمانينات.
المقترح يستند إلى اتهامات قديمة وجّهت للنظام الليبي السابق بدعم هذا التنظيم، عبر تزويده بالأسلحة والمتفجرات، ما تسبب في سقوط ضحايا مدنيين بريطانيين.
لكن تحويل هذا الاتهام إلى خطوة تشريعية تسعى لمصادرة أموال دولة ذات سيادة، أثار غضبًا عارمًا في ليبيا.
فقد اعتبرت لجنة التحقق من الأموال المجمدة، التابعة لمجلس النواب الليبي، أن المقترح البريطاني لا يعدو كونه "قرصنة قانونية" وانتهاكًا صارخًا لقرارات مجلس الأمن، مؤكدة أن هذه الأموال محمية بموجب القانون الدولي ولا يجوز المساس بها دون موافقة السلطات الليبية الشرعية.
فراغ الشرعية يغذّي التعديات
رغم هذا الرفض، تواجه ليبيا مأزقًا قانونيًا عسيرًا: من هي الجهة الشرعية التي تملك حق التفاوض أو مقاضاة الدول التي تحاول التصرف في هذه الأموال، فالمشهد السياسي الليبي ما يزال مشتتًا بين حكومتين متنافستين، ومؤسسات منقسمة، ومجلس نواب يتحرك بمفرده في بعض الملفات الخارجية.
هذا الغياب لسلطة موحدة، معترف بها دوليًا وتملك أدوات المحاسبة والرقابة، يفتح الباب أمام تحركات أحادية من بعض الدول الغربية، التي ترى في الصمت الليبي فرصة لتوسيع نفوذها أو تغطية أزمات محلية عبر تحميل "أموال الطغاة" فاتورة الماضي.
فساد وفقدان أموال
ما يزيد من تعقيد المشهد هو تقارير سابقة كشفت عن تسييل غير قانوني لعوائد تلك الأصول، وغياب الرقابة الدولية على مصيرها.
ففي بلجيكا، على سبيل المثال، أفادت وسائل إعلام أوروبية باختفاء أكثر من 2.3 مليار دولار من فوائد الأموال الليبية المجمدة خلال الفترة من 2012 إلى 2017، دون توضيح رسمي عن الجهات المستفيدة أو الأساليب التي استُخدمت للإفراج عن تلك المبالغ.
هذه الوقائع، التي لم تُفتح فيها أي تحقيقات دولية ذات جدية، تغذي الشعور في ليبيا بأن المجتمع الدولي لا يتعامل بندّية مع الملف، بل يستثمر الفوضى والانقسام لتأجيل عودة هذه الثروة إلى أصحابها.
معركة دبلوماسية مؤجلة؟
في غياب استراتيجية وطنية موحدة، تبقى قضية الأموال المجمدة عرضة للتسييس. فبينما تتحرك لجان نيابية من شرق ليبيا، تلتزم حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس الصمت، ما يعكس فجوة خطيرة في الموقف الليبي تجاه هذا الملف الحساس.
ومع استمرار الانقسام، سيصعب على أي جهة ليبية خوض معركة قانونية أو دبلوماسية ناجحة لاستعادة هذه الأصول، خاصة مع سابقة الإفراج عن فوائدها دون مساءلة.