بيروت تحت الضغط.. هل حان وقت قطيعة مع نفوذ طهران؟
بيروت تحت الضغط.. هل حان وقت قطيعة مع نفوذ طهران؟

في دروب السياسة اللبنانية المتداخلة، تتسلل يد إيران بثبات ومنهجية، لا كضيفة طارئة على المشهد، بل كلاعب دائم يعيد رسم معالمه على إيقاع مصالحه الإقليمية، يتجاوز الحضور الإيراني في لبنان حدود الدعم السياسي والعسكري لحزب الله، ليغدو تدخلًا مباشرًا في السيادة، يطال تشكيل الحكومات، وإدارة ملفات حساسة، بل وتحديد مواقف الدولة من قضايا مصيرية، وبينما تغلّف طهران تحركاتها بلغة "الدعم للمقاومة"، تكشف الوقائع المتتالية عن سعيها لفرض وصاية ناعمة على الدولة اللبنانية، مستخدمةً شبكة تحالفات وممثّلين يعبّرون عن إرادتها أكثر مما يعكسون صوت الشعب اللبناني، هذا الواقع يثير قلقًا دوليًا متناميًا، خصوصًا في واشنطن، حيث تُنظر إلى لبنان كدولة مخطوفة، تُدار بالوكالة، ما يهدد بتصعيد دبلوماسي واقتصادي قد تكون له انعكاسات كارثية، فهل ما زال للبنان متسع للقرار الحر، أم بات رهنًا لتفاهمات إقليمية تتجاوز حدوده وسيادته.
تأثير مباشر
لم تعد العلاقة بين إيران ولبنان محصورة بدعم تقليدي لحليف سياسي أو فصيل مسلح، بل تحوّلت إلى نموذج مكتمل لوصاية غير معلنة تمارسها طهران على مفاصل القرار اللبناني. وعلى الرغم من النفي الرسمي المتكرر، فإن التدخلات الإيرانية باتت ملموسة في تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية، من تشكيل الحكومات وتوزيع الحصص، إلى التأثير المباشر في مواقف الدولة من ملفات حساسة، أبرزها سلاح حزب الله والمفاوضات مع المجتمع الدولي.
في هذا السياق، يبرز حزب الله كذراع تنفيذية لإيران في لبنان، ليس فقط على مستوى العمليات الميدانية، بل في إدارة المعادلات السياسية الداخلية.
فالحزب، الذي يتمتع بقوة عسكرية تفوق ما لدى الجيش اللبناني، يتصرف ككيان فوق الدولة، مستمدًا شرعيته من "المقاومة"، بينما يتلقى توجيهاته الاستراتيجية من طهران. هذا الواقع يفرغ الحياة السياسية اللبنانية من معناها الديمقراطي، ويجعل من السيادة
اللبنانية شعارًا معلّقًا في الفضاء الخطابي أكثر منه ممارسة فعلية على الأرض.
عودة ترامب
القلق الأمريكي من هذا المسار يتعاظم منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حيث تبنّت إدارته خطًا متشددًا تجاه طهران، خاصة فيما يتعلق بنفوذها الإقليمي.
وتعتبر واشنطن أن استمرار الدعم الإيراني لحزب الله يمثل تهديدًا مباشرًا لمصالحها في الشرق الأوسط، ويُقوّض محاولاتها لتثبيت استقرار هش في دول كلبنان والعراق وسوريا.
في هذا الإطار، لا يُستبعد أن تقدم إدارة ترامب على خطوات تصعيدية إضافية ضد لبنان، من ضمنها تعليق أو إعادة النظر في المساعدات العسكرية والمالية، وربما فرض عقوبات تطال شخصيات سياسية متهمة بـ"التواطؤ مع المشروع الإيراني".
غياب التوافق الداخلي
في المقابل، تبدو الدولة اللبنانية عاجزة عن اتخاذ موقف حاسم، لا بسبب نقص المعلومات، بل بفعل التوازنات الهشة التي تتحكم بالمشهد.
فقد كشفت تقارير إعلامية محلية ودولية عن تدخل مباشر للسفير الإيراني في بيروت في ملف الرد اللبناني على الورقة الأميركية المقترحة حول سلاح حزب الله، حيث يُقال إنه مارس ضغوطًا على رئيس مجلس النواب نبيه بري لتعديل اللهجة الرسمية بطريقة تُرضي طهران.
هذا النمط من التدخلات لا يمكن فصله عن سياق أوسع يشمل إعادة تموضع إيران في المنطقة، ومحاولتها استثمار حلفائها المحليين في تعزيز مواقعها التفاوضية على طاولة أي تسوية مستقبلية مع الغرب.
وإذا كانت طهران قد نجحت في تحويل بعض الدول العربية إلى منصات نفوذ إقليمي، فإن لبنان يبقى الساحة الأبرز لهذا المشروع، نظرًا لضعف الدولة، وتشظي الطبقة السياسية، وغياب التوافق الداخلي حول مفهوم السيادة.
انقسام لبناني
من جانبهم يرى مراقبون أن المعضلة الأخطر تكمن في الانقسام اللبناني العميق حيال هذا الدور الإيراني، فبينما يرى جزء من اللبنانيين في حزب الله "درعًا للمقاومة" وامتدادًا لمحور إقليمي يعارض الهيمنة الغربية، يعتبر آخرون أن الحزب أصبح قوة وصاية داخلية تُقوّض المؤسسات، وتعطل فرص النهوض الاقتصادي والسياسي، وتدفع بالبلاد نحو مزيد من العزلة والعقوبات.
من جهته، يؤكد شارل غبور المحلل السياسي اللبناني، أن النفوذ الإيراني في لبنان تجاوز منذ زمن البعد الأيديولوجي أو الدعم "التقليدي" لحزب الله، ليغدو تدخلاً ممنهجًا في عمق القرار السيادي اللبناني.
ويضيف - في حديثه لـ"العرب مباشر" - أن السلوك الإيراني بات يعتمد على آليات غير رسمية لكنها فعالة، مثل الضغط على بعض المسؤولين، أو استخدام "الدبلوماسية الرمادية" عبر سفارتها في بيروت، أو حتى إصدار توجيهات واضحة للحزب حول كيفية التعاطي مع الملفات الداخلية والخارجية.
ويرى غبور أن التحدي الأخطر يكمن في أن قوى السلطة، بما فيها رئاسة مجلس النواب وبعض الكتل النيابية، باتت تتعامل مع هذا النفوذ باعتباره أمرًا واقعًا لا بد من التعايش معه، ما يُفرغ مفهوم السيادة من مضمونه.
ويُحذّر من أن هذا المسار يُضعف مؤسسات الدولة، ويُعزز مشاعر الإحباط لدى اللبنانيين، ويُمهّد لانفجار اجتماعي جديد. ويختم قائلًا: "إن الصمت الرسمي لم يعد مقبولًا، إما أن تُحسم هوية الدولة اللبنانية، أو أن نُسلّم بما تبقى منها لصالح مشاريع لا تعبّر عن إرادة شعبها، بل عن طموحات خارجية تنظر إلى لبنان كأداة، لا كشريك سيادي.
مفترق حاسم
في السياق ذاته، يرى المحلل السياسي فادي عاكوم أن التدخل الإيراني في لبنان بلغ مستويات لم تعد خافية على أحد، مشيرًا إلى أن طهران لم تعد تكتفي بتقديم الدعم لحزب الله بوصفه "حليفًا استراتيجيًا"، بل أصبحت تتعامل مع لبنان كأرض نفوذ مباشر، تُدار بعض مفاصله الأساسية وفق أجندتها الإقليمية.
ويُؤكد عاكوم - في حديثه لـ"العرب مباشر" - أن هذا الواقع يتجلى من خلال الضغوط السياسية التي تمارسها إيران عبر سفارتها في بيروت، ومحاولاتها المستمرة للتأثير على مواقف الدولة اللبنانية في ملفات دولية دقيقة، مثل مفاوضات ترسيم الحدود وسلاح حزب الله.
ويُشير عاكوم إلى أن خطورة هذا التدخل لا تكمن فقط في البعد السيادي، بل في انعكاساته على الاستقرار الداخلي، حيث يُفاقم الانقسام بين المكونات السياسية والطائفية، ويعزز شعورًا عامًا بأن الدولة اللبنانية رهينة لمشروع خارجي لا يمثل طموحات الشعب اللبناني.
ويُضيف: "لبنان اليوم أمام مفترق حاسم؛ فإما أن يتحرر من هيمنة المحاور الإقليمية، وفي مقدمتها المحور الإيراني، ويعيد إنتاج عقد سياسي جديد يضمن استقلالية القرار، أو أن يستمر في الانحدار نحو مزيد من العزلة والانهيار الاقتصادي والأمني". ويختم عاكوم بالتأكيد أن أي إصلاح حقيقي يبدأ أولًا باستعادة القرار الوطني من أي وصاية، مهما كانت شعاراتها.